عبد الحي بنيس
من الوالدة إلى الدراسة
بعـد أن قربتنـا مـن شـخصيتك، فـأول الأسـئلة التـي تتبـادر إلـى الذهـن، ترتبـط بتاريــخ الــوالدة، والظـروف المحيطــة بهــا، أيــن ومتــى ولــدت ؟ كيــف احتفلــت عائلتــك بصرختـك الأولـى؟ ومـا هـو ترتيبـك ضمـن الإخـوة؟.
ولـدت سـنة 1952 بمدينـة فـاس، مـن أبويـن إدريـس بـن مصطفـى بنيـس وخديجـة بنت محمد السلاوي، وقيل لي أننـي ولدت فـي عيـد المولد النبوي الشريف، ترتيبـي السادس ضمن إخوتـي التسعـة عشـر، منهـم مـن مـات، ومنهـم مـن ازداد ميتـا ومنهـم مـن بقـي علـى قيـد الحيـاة، وهـذا هـو العـدد العـام إخوتـي الأشـقاء وغيـر الأشـقاء، فوالـدي تـزوج سـنة 1974 بامـرأة ثانيـة كانـت تعيـش معنـا منـذ 1968 ،رزق معهـا بولـد وبنـت، فــكل إخوتــي يعملــن إمــا فــي الصناعــة التقليديــة أو التجــارة، أنــا الوحيــد الــذي ولجــت
الوظيفـة العموميـة.
بخصوص والدتـي والإحتفالات التــي رافقتهــا، ففــد كنــت رضيعــا وغيــر واع بمــا يروج حولي، لكن مـن خـلا حكايات الأهل، قررت العائلــة بأن لا تقيـم أي نـوع مـن أنـواع الإحتفـال، باسـتثناء حفـل العقيقـة الـذي حضـره المقربـون فقـط ، نظـرا لظـروف المغـرب الـذي كان محتلا مـن طـرف المسـتعمر الفرنسـي.
فتحـت عينـي علـى الدنيـا فـي حضـن أبويـن آخريـن يقومـان بتربيتـي منـذ والدتـي، وهمـا السـيد علـي الفيلالـي والسـيدة عائشـة الفيلالي، اللـذان كانـا عاقـران، فقامـا بتربيتـي رفقـة أخـت اسـمها حليمـة القاسـمية تكبرنـي بعشـر سـنوات، وجدوهـا “ضائعـة” عـام
البـون، سـنة 1944 فـي أحـد أزقـة مدينـة فـاس.
ما سبب تربيتك مع أبوين غير أبويك الحقيقيين؟
كمـا قلـت كنـت السـابع فـي ترتيـب إخوتـي، ولـم يكـن وقتهـا الحملات لتنظيـم الأسـرة، والأقـراص لمنـع الحمـل، وأمـي شـأنها شـأن باقـي النسـاء وقتهـا كانـت تحمـل مباشـرة بعـد كل والدة، فمـع صغـر سـنها وعـدم تجربتهـا وقلـة المسـاعدة مـع قيامهـا بـكل
أعبـاء المنـزل، كان يقتـرح علـى أبـواي أن يتـركا أحـد الأبنـاء إمـا عنـد عمتـي أو عمـي، أو إحـدى الجـارات، وعلـى هـذا الأسـاس وقبـل أن أرى النـور تقدمـت أسـرة لهـا سـابق معرفـة بأسـرتي بسـبب جوارهـا لأسـرة أخـرى كانـت تقـوم بتربيـة أخ لـي يكبرنـي بسـنة،
فطلبـت مـن أمـي حيـن تلـد وتقـوم بالسـامة، أن يقومـا بتربيـة ذلـك المولـود، وذلـك مـا كان.
قربنا من هذه الأسرة التي قامت بتربيتك؟
هـذه الأسـرة فقيـرة الحـال، لكنهـا تتميـز بالكرامـة والأفـة وعـزة النفـس، تنحـدر مـن مدينـة الرشـيدية، قصـر السـوق سـابقا، وكانـت تسـكن قبـل القيـام بتربيتـي بقصبـة النوار، وتعرف أيضا بـ“قصبة فيلالة“، التيـ بنيـت مـن طرف دولة الموحديـن فـي القـرن 12 و13 ميـلادي.
لــم تكــن كبيــرة العــدد، بحيــث كان لأبي أخ وحيــد مكفــوف يســكن بمدينــة مكنــاس، وكان لأمـي أم وأخـت يسـكنان وحيـدان فـي قصبـة النـوار، كمـا كان لهـا أخ متـزوج وليـس لـه أبنـاء يسـكن فـي حـي المقطـع. كان أبـي يشـتغل فـي أحـد المعامـل الكبـرى فـي مدينـة فـاس متخصـص فـي تركيـب وصباغــة هيــاكل الحافــلات، وأمــي كانــت ربــة بيــت بامتيــاز، تقــوم بتطريــز الأحذيــة
والأحزمــة المذهبــة.
هل ولجت “الكتاب”، مثل الذين هم في سنك؟
طبعـا، ككل المغاربـة مـررت بهـذه المرحلـة، كنـا نســكن بــدرب الحــرة، وولجــت الكتــاب الموجــود قربنــا بالطالعـة الصغـرى، رافقنـي أبـي فـي فرحـة كبيـرة حامـلا معــه قالبيــن مــن الســكر وبعــض النقــود لتقديمــه للفقيــه »الحلاوة«، فقد ولجــت أكثــر مــن كتــاب، بمــا فيهــا دار الفقيه، كنا ندرس علـى يـد الفقيـه، بعـض السـور وقواعد النحــو، في هذه الفتــرة كنــت صغيــرا جــدا، وحضــوري
إلــى جانــب بعــض أبنــاء الحــي كان علــى ســبيل التدريــب والإستئناس بأجـواء الدرس، تمهيــدا للولــوج إلــى المدرســة، كنــا نجلــس علــى حصيــر خشن، مربعي الرجليـن، في صفـوف متراصـة ومتزاحمـة، دون أن يحـق لنـا تغييـر هـذه الوضعيـة، لمـدة تتجـاوز ثمانـي ساعات فـي اليـوم، وهـي وضعيـة ترهقنـا بدنيـا.
حين تتذكر ”الكتاب”، ألا تتذكر “الفلقة” معه؟
نعـم. لأنني لم أكـن أستوعب الدـوس كثيـرا، وكل طفــل حيــن يخطــئ خطــأ كبيرا يستحق العقاب، يطلب الفقيـه من أحد التلاميذ الكبــار ذوي البنيــات القويــة؟، ليحمل الفقيه العصـا ويبدأ في ضربه على باطن رجليـه، وهـذه العمليـة كانـت تسـمى بـ”التحمال“، وكثيـرا مـا كان الفقيـه، حيـن يحـس بانخفـاض إيقـاع القـراءة، يضربنـا ضربا عشوائيا، حيثـ يحمل عصـاه المرنـة والطويلة، ويبـدأ فـي ضـرب الأجسـاد الصغيـرة، حتـى تسـتيقظ.
ما هي الأحداث التي واكبت هذه الفترة من طفولتك؟
الأحداث التــي واكبــت طفولتــي هــي نفــي الســلطان الشــرعي مــع أســرته إلــى مدغشـقر فـي 20 غشــت 1953 ،حتــى رجوعــه إلــى عرشــه. بعد نفي الملك أصبحـت المقاومة شأنا شـعبيا يهـم النـاس فـي المـدن والقـرى وتحـت القيـادة السياسـية لحـزب الإستقلال، أصبـح الموضـوع جماهيريـا، يخـص كل المغاربـة، كبارا وصغـارا رجـالا ونسـاء، متعلمين وغير متعلميـن، أغنيـاء وفقـراء، تجـارا وعمالا، حرفييـن وفالحيـن، طلبـة وتالميـذ.
إن منظـر نفـي الملـك بـدا لجميـع المغاربـة مهينـا ومـذال، لهـذا تحـرك الشـعب بأكملـه فـي الأحيان والدروب والأزقة والكاريانات، وظهر رجـال شرفاء ومناضليـن مؤمنيـن بقضيـة الوطن وحقه في الإستقلال، وأصبحنا فـي كل يـوم ننام ونستـيقظ علـى عمليـة فدائيـة جديدة، وعلـى أخبار المقاومـة وهـي تهز أركان الوجود الإستعماري، لـم تعـد أذان المغاربـة تفـارق أجهـزة المذيـاع، خصوصـا إذاعتـي لنـدن والقاهـرة، اللتـان نشـطتا فـي نقـل أحـداث المقاومـة المغربيـة.
كنت أحيى هذه الوقائـع وأتفاعــل معهــا، ذلــك أن عيــون النــاس وحركاتهــم كانــت تحمل كميات كبيرة مــن التوجــس والخـوف والترقــب ووالــدي أصبــح ملتصقــا بجهــاز الراديــو، وكان يحدثنــا أثنــاء جلســاتنا السرية حــول هــذا الموضــوع ومســتجداتــه·
ومــن خلال هــذه المحطــات عظــم شأن جلالة الملــك محمــد الخامــس، وكبــر فــي قلـوب الناس وأنظارهـم، إلـى حـد أنهـم بـدأوا يـرون صورتـه علـى وجـه القمـر سـاطعة جلية، ويشيـرون بأصابعهـم فـي اتجـاه السـماء ويقولـون انظـروا إنـه محمـد بـن يوسـف
وحين يسأل أحدهم أين؟ أنـا لـم أره، يجيبونـه أنظـر جيـدا باتجـاه القمـر، فينظـر السـائل ثم يقول: نعم لقـد رأيتـه، إنـه بالقمـر.
في هذه الفترة كنـت صغيـرا علـى فهـم وإدراك نفـي السـلطان وأسـرته، ومقاومـة المسـتعمر، وهـذه الأمور كلهـا هـي التـي جعلتنـي أحـس باسـتثنائية الظـرف وبـأن البلـد يعيـش وضعيـة مختلف ة وغيـر عاديـة. ولازلت أذكــر عــودة الملــك الميمونـة فــي 16 نونبــر 1955،فــكان يومــا مشــهودا في تاريـخ المغاربـة، حيـث عـاش المغاربـة لحظـات اسـتثنائية وغيـر مسـبوقة، وعمـت الأفراح والأعراس فـي مدينـة فـاس كباقـي أرجـاء المملكـة، وبـدأت مظاهـر الإحتفال جليــة علــى وجــوه النــاس، وعمــت آثــار المســرات كل المنــازل والشــوارع، تــم تزييــن الأحياء والأزقة بالأأعلام الوطنيـة علـى الأسوار والأعمدة ، ونصبـت الخيـام والزرابـي بداخلها، المصابيح دائما مشــتعلة، والأهازيج تتوقـف ليلا ونهـارا.
بالنسبة لأدائك المدرسي، كيف كان؟ وهل كنت ضمن التالميذ المتفوقين؟
فــي ســن الخامســة مــن عمــري، اصطحبنــي الشــاب اســمه محمــد الزمــوري ليسـجلني بمدرسـة »اللمطييـن« بـدرب العامـر، هـذا الشـاب، هـو حفيـد شـيخ كان يسـكن مــع زوجتــه فــي الطابــق الثانــي بنفــس المنــزل الــذي نســكنه، والســيد محمــد الزمــوري رحمــه الله كان مديــرا لجمعيــة فــاس ســايس ســابقا.
مـع كامـل الألسـف، لـم أكـن متفوقـا فـي دراسـتي، بـل لـم أكـن حتـى أفهـم مـا يـدور داخـل القسـم، فربمـا بسـبب عيشـي وحيـدا وسـط هـذه الأسـرة التـي قامـت بتربيتـي، وحتـى الجيـران فـي تلـك البيـت ليـس لهـم أبنـاء، فأمـي وأبـي اللـذان قـام بتربيتـي، كانـا كل همهـم هــو أن أكــون علــى خلــق كبيــر، كالصلاة، وحســن المعامــات، ألا أكــذب وألا أســرق، أحتـرم كل مـن هـو أكبـر منـي سـنا، أحـب وطنـي، أمـا الدراسـة والتثقيـف فبحكـم أنهمـا لا يتوفـران علـى أدنـى قـدر مـن التعليـم كانـا لا يسـاعدان علـى مراجعـة دروسـي، وهـذا بـلاشـك كان مـن الأسـباب التـي جعلتنـي ضعيـف الفهـم واالهتمـام بالدراسـة.
أتذكـر فـي أحد الأيام، لـم أقـم بواجباتـي المدرسـية، فـأراد المعلـم أن يؤدبنـي علـى إهمالـي لدروسـي، فقلـت لـه: سـأعطيك مـا فـي جيبـي مـن “النبـق”وألا تضربنـي، هنـاك انفجـر المعلـم بالضحـك وقـال لـي: أعـد مـا قلـت، فكررتهـا مـرة ثانيـة، فأخذنـي مـن يـدي،
وبـدأ يجـول بـي علـى جميـع أقسـام الأخـرى، ويدخلنـي عنـد معلميـن الأقسـام الأخـرى، ويطلـب منـي أن أحكـي لهـم مـا قلتـه لـه، فيضحكـون جميعـا، فطلـب أحـد المعلميـن بـأن يغفـر لـي وأن لا يضربنـي، وذلـك مـا حصـل.
مـرة أخـرى، كنـت قـد هيـأت »طربـوش« مـن الـورق المقـوى علـى شـكل رأس حمار بأذنيـن ومكتـوب فـي واجهتـه حمـار، قدمتـه للمعلـم الـذي كان يدرسـني فـي القسـم الثالـث ابتدائـي، فوضعـه فـي متحـف القسـم، وفـي اليـوم الموالـي، لـم أحفـظ دروسـي، فـكان أول مـن وضـع هـذا الطربـوش علـى رأسـه، هـو أنـا، فأرسـل معـي أكبـر تلميـذ فـي القسـم، وبـدأ يطـوف بـي علـى جميـع الأقسام، لأكـون عبـرة لمـن لايحفـظ دروسـه، فـكل قسـم مـررت بـه إلا والتلاميذ ينادوننـي »هـذا حمـار، هـذا حمـار«. كمـا أتذكـر فـي نفـس السـنة الدراسـية، أن معلـم اللغـة الفرنسـية السـيد الدكالـي كان يشــرح لنــا أحــد الــدروس، وفــي نفــس الوقــت يطــرح علينــا بعــض الأســئلة مــن تلــك الـدرس، وهـو جالـس علـى حافـة طاولتـي وبيـده مطرقـة مـن الخشـب، سـألني مثـل باقـي
التلاميـذ، فلـم أعـرف مـا أجيـب عليـه، فهـوى بتلـك المطرقـة علـى رأسـي حتـى سـال دم غزيـر، لـم يعـرف المعلـم مـاذا يفعـل فـي تلـك المشـكلة، ونـادى علـى بعـض المعلميـن، وشـرعوا فـي تضميـد الجـرح بوضـع خيـوط العنكبـوت وأقـام الطباشـير علـى رأسـي،
لكـن الـدم لـم يتوقـف عـن النزيـف.
أما المجتهدين، فلا زلت لحدـ الساعة أذكـر حين كان ينجـح أحـد أبنـاء الجيـران فــي آخــر الســنة وينتقــل مــن قســم آلخــر، فالفرحــة كانــت تعــم أســرته وكــذا الجيــران والم ارف، ويعتبرونه شيئا استثنائيا ومهما، فتنطلق الزغاريـد والأفـراح فـي المنـازل، وكان أبــي وأمــي يتمنيــان لــو كنــت واحــدا مــن هــؤلاء الأطفــال الناجحيــن، أمــا أنــا فلــم يكـون لـي ذلـك وقتهـا أي معنـى، ولـم أعـرف سـبب ذلـك لحـد االآن. كنـت أذهـب إلـى المدرسـة وأرجـع، بـدون فائـدة تذكـر، كـررت فـي أكثـر مـن قسـم، حتــى أنــي لــم أتمــم المرحلــة الإبتدائيــة، وبســبب عــدم تفوقــي، وحصولــي علــى أدنــى نقطـة، كنـت أخـاف أن يضربنـي والـدي، وبـدأت أهـرب مـن المدرسـة، وتطـورت حكايـة الهـروب مـن المدرسـة بسـبب إخبـار أسـرتي مـن قبـل زمالئـي فـي القسـم، وبـدأت أهـرب مـن المنـزل كذلـك، وبـدأ مسلسـل هروبـي مـن يـوم واحـد، إلـى عـدة أيـام، وفـي آخـر مـرة هربــت شــهرا كامــلا مــن البيــت، ولهــذا الســبب، قــررا والــداي، إرجاعــي إلــى أســرتي الأصلية خوفـا مـن أن يقـع لـي مكـروه، أو تلصـق بهمـا تهمـة الإهمـال، فقـد سـمعت مـرة وأنـا طفـل، أحـد الجـارات، تقـول لأمـي، يجـب أن تعيـدي الولـد إلـى أهلـه، لأنه قـد يقـع لـه مكـروه، ويصبـح »ولـد ونـص«، كمـا قالـت لهـا: راه »اللـي كيربـي أولاد النـاس، بحـال اللـي كيـدق المـاء فالمهـراز«.
وأتذكــر حــدث لازال راســخا فــي ذهنــي، هــو أيــام الدراســة، كان يوجــد بالمدرســة مطعــم تقــدم فيــه وجبــات غــذاء كاملــة وقــت الغــذاء للاطفــال المحتاجيــن، ففــي وقــت خروجنـا مـن المدرسـة، يذهبـون التلاميـذ الذيـن تـم تسـجيلهم إلـى المطعـم، وكنـت غيـر مسـجل مـن ضمنهـم، وذلـك ألن أسـرتي رغـم فقرهـا، لـم تكـن تريـد ذلـك حفاظـا علـى كرامـة وعـزت النفـس، فكانـت أغلـب الأسر لاترضـى بالبـوح عـن فقرهـا، لكننـي كنـت أتسـلل إلـى المطعـم مـرارا، وفـي أحـد الأيـام جـاءت أمـي لإصطحابي إلـى المنـزل، فلـم ترانـي مـع الأطفال الذيـن خرجـوا مـن المدرسـة، فسـألت عنـي أحـد زمالئـي فـي القسـم الـذي قـال لهـا بأننـي موجـود بمطعـم المدرسـة، وقتهـا كنـت أتنـاول وجبـة الغـذاء، وإذا بـي أحـس بيـد تقبـض علـى أذنـي بشـدة، حتـى كادت تقتلـع مـن موضعهـا، أخرجتنـي فـي الحـال، وطيلـة طريقنـا إلـى البيـت، وهـي تضربنـي، وحيـن جـاء أبـي بالليـل، حكـت لـه فعلتـي التـي فـي نظرهـم تعتبـر جريمـة لا تغتفـر، فمـا كان منـه إاى أن قيدنـي علـى سـلم خشـبي وبـدأ يضربنـي وفـي نفـس الوقـت يبكـي ويقـول لـي: لـم أرض أن يضعنـي ابنـي فــي هــذا الموقــف المخجــل، لأنني فيلالي حــر، وأمــك فيلالية حــرة، والمعــروف عــن فيلالة عـزة الكرامـة والنفـس.
ماذا عن أصدقاء هذه الفترة ورفاقك؟
في هذه المرحلة، كان لدي القليل مـن أصدقـاء الدراسـة، وأصدقـاء الحـي الذيـن كنت أشاركهم اللعـب وشـغب الطفولـة، لكـن ذاكرتـي لا تسـترجعهم كلهـم، وتغيـب عنـي أسماؤهم التي تلاشت في زحمة الحيـاة ومشـاغلها، فأغلـب الأصدقـاء، لـم يواصلـوا تعليمهــم، بعضهــم لــم ينهــوا مثلــي المرحلــة االبتدائيــة، وبعضهــم اكتفــوا بالشــهادة الإبتدائية،وبعضهــم توجــه للتجــارة كأبيه، فيمــا البعــض الآخر نالــوا شــهادة البكالوريــا أو الإجازة، واختاروا العمـل والتوجه إلـى سـلك الإدارة، ومنهـم مـن التجـأ إلـى الميـدان الفنـي كالفنـان الشـعبي محمـد الصنهاجـي الملقـب “الكنـار”، وشـقيقه الأكبر الـذي كان ضمــن جــوق الفنــان اليهــودي »بوطبــول«.
قلـت أنـك كنــت تهـرب مـن المنـزل، إلـى أيـن كنـت تذهــب؟ ومـع مــن؟ وكيـف تقضــي يومــك؟ وأيــن كنــت تنــام؟
كنا نذهب إلى الفضـاءات الشــعبية مـن أجـل الفرجـة والترفيـه، وعـادة مـا تكـون »الحلق ة« مـن أجل الإستمتاع بمشــاهدة عروض مشوقة، إما عنــد الحكواتــي الــذي يحكــي األحاجــي والقصــص كالأزلية والعنتريــة وغيرهــا مــن أغــرب الحكايــات حيــث يقــوم بمــزج مــا هــو حقيقــي بمــا هــو مــاض متخيــل عــن معــارك قديمــة تجــري بيــن خيرين وشرين وعظمـة السلاطين وحكمة الحكماء أو لصـوص محتاليـن أو قصـص الحـروب والمعـارك بيـن المسـلمين والفـرس أو بيـن المسـلمين والـروم، فـكان أصحـاب هـذه الحلقـات يسـتخدمون الحيـل مثـل افتعـال شـجار مـن أجـل اجتـذاب جمهورهـم مـن المسـتمعين، وطبعـا نحـن منهـم، وإمـا عنـد مروضي األفاعـي، أو حلقـة الموسـيقي الشـعبة إلى غير ذلك من مظاهر الفرجة الشعبية التي تختزل التراث المغربي الغني والفريد.
أمـا الذيـن كنـت أرافقهـم، فأغلبهـم كسـالى مثلـي، أو بعـض الأطفـال الذيـن كانـوا لـم يلجـوا المدرسـة قـط، فإمـا نذهـب إلـى الحلقـة كمـا أسـلفت، أو نتمتـع بالفضـاءات القريبـة مــن المدينــة التــي تنتشــر فــي مراعيهــا الخــراف والماعــز والأبقــار، والتــي تنمــو فيهــا
أشــجار البلــوط والأرز أو الحبــوب والكــروم وكــذا أنــواع عديــدة مــن أشــجار الفاكهــة، ولكثرة حدائـق وبساتين البرتقال والتين والرمان والزيتـون خــرج أبواب المدينـة، كنـا نذهـب إلـى هنـاك مـن أجـل قضـاء اليـوم والاسـتفادة مـن غلتهـا المتوفـرة. كنـا نتسـكع بيـن أزقـة المدينـة الضيقـة، نتجـول بمهـل وبـدون أيـة وجهـة محـددة، لأن للمتعـة الروحية والحسية، فهي مدينة الأحاسيس
التجول في مدينة فاس لا تجد حـدا للمتعة ، كونهـا العاصمـة العلميـة وعاصمـة التقاليـد والحضـارة العريقـة، فـي الألحيـاء القديمة داخـل الأســوار يبهجــك جمــال زخــارف مبانيهــا التقليديــة المتالصقــة، وتوحــد مظهرها الخارجـي حتـى أنــك لا تعــرف البيــت الــذي تســكنه الأسرة الفقيــرة مــن تلــك من الجيـران علـى مشـاعر بعضهـم البعـض.
كمـا يوجـد بهـا أكبـر مآثـر الحضـارة الإسـلامية فـي المدينـة التـي كنـا نقضـي أغلـب الأوقات فيهـا، والتـي كنـا نتمـدد فيهـا وقـت القيلولـة، وأبرزهـا جامـع القروييـن، وضريـح المولـى إدريـس، ومـن المآثـر كذلـك أبـواب المدينـة العتيقـة كبـاب فتـوح وبـاب الخوخـة، وباب سيدي بوجيـدة وباب الحديد وباب الدكاكين وبــاب الكيسة وبـاب المحروق وباب أبي الجنــود وبـاب المكينـة وباب السمارين…، وأبراجهـا الشـامخة والشـاهدة علـى تاريـخ المدينـة، وقصورهـا الفخمـة، ونافوراتهـا الجميلـة، ومدارسـها التاريخيــة مثــل مدرســة العطاريــن والصفاريــن والصهريــج والمصباحيــة والبوعناني ة، وتتــوزع هــذه المآثـر وسـط أسـواق وأزقــة المدينــة المزدحمــة باســتمرار.
نتجول بين الأسواق الكثـرة، ومنهــا: معاصــر الزيتــون، مدابغ الجلـود، صنع الأواني الخزفيــة، صناعــة الأواني المعدنيــة، صناعــة الأسلحة كالســيوف والرمــاح والأقواس والــدروع، صناعــة الســال باليــد، تخريــم النحــاس والفضــة.
نذهـب إلـى حدائـق »جنـان السـبيل« التـي تعتبـر نباتاتهـا الفريـدة وتنظيمهـا المميـز جوهـرة فـي عقـد التقاليـد األندلسـية، والتـي تمتـد علـى مسـاحة ثمانيـة هكتـارات وتضـم حوالـي 1000 نـوع مـن المغروسـات، وتتوفـر الحديقـة علـى سـبع أبـواب ضخمـة، تتجسـد
بداخلهـا روعـة طبيعيـة خالبـة تحيط بنافـورات وجـداول وأحواض، فضال عن مستطيلات ومربعـات مـن العشـب والأزهـار وأنـواع كثيـرة مـن الأشـجار الكثيفـة، كالخيـزران. كنـا نســمتع بعبير التوابـل المنبعثة من حولنا، أو بجمـال ألـوان خيـوط الصوف المعلقة بأسـواق الصباغيـن، كنـا نضيـع وسـط ضجيـج األدوات فـي كل مـكان تقريبا، والدخول في متاهات الأزقة والأدراج، والم رات، والقبب، والدروب.
كمــا كنــا نذهــب إلــى المــلاح مقــر ســكن اليهــود، مــن أجــل التعــرف علــى طريقــة عيشـهم، وحيـن تتسـوق نسـاؤهم الخضـر أو أي شـيء آخـر، نقـوم بحمـل مشـترياتهم إلـى بيوتهـم مقابـل قـدر مـادي نشـتري بـه شـيئا نأكلـه، أو كنـا نذهـب إلـى وادي »بوخـرارب« الـذي يمـر بيـن بيوتـات المدينـة، الـذي يوجـد بداخلـه رجـل يسـمى »فـاس« يبحـث فـي قــاع الــوادي عــن أي شــيء مثــل: ملعقــة أو شــوكة لــأكل أو آنيــة أو محفظــة…، فيقــوم بتنظيفهــا ليعيــد بيعهــا فــي أحــد الأماكن المخصصــة لذلــك، وهكــذا كنــا نقضــي النهــار، إلــى أن يســدل الليــل ســتاره فنلجــأ للحوانيــت المصطفــة لنأخــذ مكانــا معينــا وننــام تحــت
»غـاق« أحـد الحوانيـت.