يوميات أستاذ من درجة ضابط: (الحلقة الأولى)

3 يوليو 2019
يوميات أستاذ من درجة ضابط: (الحلقة الأولى)

عزيز العويسي

“يوميات أستاذ من درجة ضابط” ترتبط من حيث المجال، بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالجديدة، ومن حيث الزمن، تعود فصولها إلى الموسم التكويني 2013/2014، شعبة التاريخ والجغرافيا، مسلك التأهيلي (فوج 2014)، يوميات لم تنحصر عند رحاب هذا الإطار “الزمكاني” بل امتدت مساحاتها لتحتضن أمكنة وأزمة أخرى وجدانيـــــة، توقفت حركاتها وسكناتها بشكل لارجعة فيه أواسط شهر دجنبر من سنة 2013، بعد أن توصل “الضابط” السليم بقرار “الاستقالة” من صفوف الشرطة، لكنها ظلت حاضرة في الوجدان، محركة روافد الإبداع كما تحرك نسائم العشق أوراق القلوب العاشقة، مصممة أن تواكب “سليم/الضابط” وهو يخطو الخطوات الأولى في مسار المهنة الجديدة (التدريس) .. يوميات خرجت من عنق الزجاجة بعد سنوات من الركود والرتابة تجاوزت عتبة “13”سنة، حضرت فيها”الأصفاد” و”الأبحاث” و”التحريات” و”الإجرام” وغاب فيها “القلم” و”الإبداع” و”الكلمات الراقية” المنسابة بأناقة عبر شلالات الخيال الواسع..

يوميات أبت إلا أن تكون “شاهد عيان” على مرحلة مفصلية من حياة “سليم” تربط كرابطة عنق، بين مسارين متباينين : مسار أول تهاوى فيه “سليم/الضابط” كما تتهاوى أكوام الجليد تحت أشعة الشمس الحارقة، ومسار ثان رسم معالم صورة “سليم/الأستاذ”، وبين المسارين، ولدت هذه اليوميات بعد أن فكت عقدة القلم وحررت الكلمات من طوق الأصفاد، راسمة معالم محاولة إبداعية، تحكمت فيها الرغبة الجامحة في التأريخ لجانب من يوميات “سليم” وهو يشق كالمحراث الخشبي جانبا من مرحلة التدريب في مركز الجديدة، متوقفا كالبراق، عند عدد من المحطات البارزة، التي بصمت مسار موسم تكويني طغـا عليه طابع “الاستثناء” بكل المقاييــس ابتدأ غضون أواسط شهر دجنبر من سنـة 2013 وانتهى بتوقيع محضر الخروج بتاريخ 22 يوليوز من سنة 2014 ..

سياق اليوميــات

ما أن نال ” سليم ” شهادة الإجازة في التاريخ من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط (جامعة محمد الخامس ) صيف 2000 ، حتى انضم إلى سلك الشرطة في وقت مبكر، قبل أن تتسلل طلائع البطالة الى قلعة أحلامه الكاسحة ،نجاحه في أول مباراة شرطة .. كان بمثابة رصاصة الرحمة التي أوقفت عنوة مساره الجامعي بعد مرحلة الإجازة، وخطوة غير محسوبة سرعـــان ما أجهزت على كل ما كان يحمل من أهداف وأمنيات رغم صعاب المضمار.. وقبل الإنخراط في الحياة المهنية الجديدة، قضى تدريبا أساسيا بأكاديمية الشرطة، مر فيـــه بيوميات حبلى بالأحداث والمواقف المتناسلة،في فضاء مغلق لا مكان فيه إلا للإنضبــاط والطاعة والإمتثال لأوامر وتعليمات الرؤساء والمؤطرين من أعلى رتبــة إلى أقلها، فضاء تحف بـه الأسوار من كل صوب وإتجاه وسط جحافل متراصة من أشجار البلوط الفليني، تضفي على المكان نوعا من السحر والرهبة، فضاء لا مجال فيه للتهــور والخروج عن التقاليد والأعــراف الأمنية، وأي تهور أو إنزلاق كان يعرض صاحبه إلى الإدانة والعقوبة التي كانت تتأرجح بين القيام ب”التراكسيون” أو “مشية الكنار”، أو قضاء نوبة حراسة ليلية في “الميرادور” أو حلبة الرماية أو حلبة المحارب أو غيرها  من نقط الحراسة، أو الحرمان من عطلة نهاية الأسبـــوع ..

لكن بعيدا عن العقوبات التي كانت تتربص بكل متدرب في كل لحظة تهور أو تراخي أو لامبالاة .. كانت اليوميات غارقة في أوحال الرتابة القاتلة وكل يوم يكاد يتشابه مع اليوم الآخر باستثناء بعض الاختلافات البسيطة .. استيقاظ عنوة مع صياح الديكة والمنبهات وصراخ المؤطرين .. رياضة صباحية .. مراسيم تحية العلم بساحة الشرف .. أشغال الكورفي .. حصص دراسية .. مشي عسكري .. دفاع ذاتي .. نوبات حراسة .. وبين كل هذه الأعمال وغيرها، كانت تتقاطع العشرات من الأحداث والمواقف داخل الغرف و”الدورطوارات” ، في المطبخ .. خلال فترات المشي العسكري .. في الملاعب .. في حلبة الرماية .. في حلبة المحارب .. في السينما أو قاعات الدروس وكذا في كل الممرات … كان “سليم” يتعايش عنوة مع الرتابة القاتلة، أدرك مبكرا وهو يقضي فترة التدريب الأولى “البيوطاج” التي امتدت لمدة شهركامل داخل الأسوار المغلقة بعيدا عن العالم، أدرك معنى “الحرية” التي كانت تبدو كقطرة مـاء في صحراء قاحلة … كمـا أدرك وقتها أنـه خطـا الخطوة الأولى نحو المجهول في مضمار محفوف بالآهات والمخاطر والمطبات والكوابيس المزعجـــة.

بعد أن اصطدم بصخرة الواقع، أخدت تتراكم عليه خيبات الأمل تباعا … إلى حد بدأت تراوده – في لحظات التذمر- فكرة الانسحاب في صمت من تشكيلات الأرقام .. لكن لم يكن له من خيار سوى الصبر والتحمل والتأقلم مع يوميات الآهات والشكوى التي لا تنتهي ..  كان كغيره من المتدربين مجرد رقم في طابور قد يكون له معنى وقد لا يكون .. كان حينما تؤرقه الرتابة وتجتاحه رياح الرفض والتمرد من كل صوب واتجاه .. كان يجنح إلى الصمت الموجع .. ويركن إلى ربوة الشرود ..بعيدا عن الآهات والضجر..  لكن بين الصمت والشرود .. كان يجد ملاده الآمن في الصبر وقوة التحمل .. كان هاجسه الوحيد ألا ينحني .. ألا يخضع .. ألا يستهويه بريق الأرقام .. ألا تخدعه البذلة الخضراء ..ألا يتنازل عن شبر من شخصيته بكل شعابها ومروجها وأوديتها .. ألا يرفع الراية البيضاء مهما الصوت الجائر علا .. ورغم زخم الأحداث وما حملته في مساراته من حمى وأوجــاع .. من آهات وانفعالات .. من مواقف وردات أفعال .. لم يقو”سليم” وقتهــا على  مسك القرطاس والقلم للتأريخ لتلك المرحلة المفصلية في حياته المهنية والشخصية، كان يدرك أن فترة التدريب انعكست يومياتها و إيقاعاتها على نفسيته الثائرة .. وأن طاقة إبداعه ورومانسيته قد نزلت إلى مستوياتها الدنيــا بفعل الضغط اليومي .. وسط مجال لا مكــان فيـه إلا للصرامـة والطاعة والانضباط والخضوع والانصياع …بعيدا كل البعــد عن عوالم الرومانسية والشاعرية والإبــداع …

لكن وبعد مرور زهـــاء “13” سنة من العمل، يشاء القدر أن يغادر “سليم” الصفوف غضون أواسط شهر دجنبر من سنة 2013 ، تاركا خلف ظهره المحاضر والتقارير والشكايات والأصفاد .. وسنوات كانت تبدو مدارة تتقاطع فيها كل سبل الآهات والانفعالات …و كان ذلك إيذانا بنهايـة شخص “سليم الضابط “وبدايــة تشكل معالم شخصيـة ” سليم الأستــاذ “…وفي خضم هذه المرحلة الإنتقالية .. أبى ” سليم” إلا أن يخلد ليومياتــه وهو يخطــو أولى خطواته في مجال التدريـس كأستاذ متدرب داخل فضاءات ” المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين” بمازاغان .. فكانت هذه اليوميات .. يوميات أستاذ من درجة ضابط .. ثمرة مخاض وبدرة معاناة مــع عصيان الكلمات وتمرد العبارات .. يوميـات حاول من خلالهـا النهوض من تحت أنقاض السنوات العجاف وإعادة تشكيل الصور المحطمة وترميم ما تكسر بسبب رياح الأرقام الراحلة .. من خــلال رصــد سيرورة موسم تكويني طغـا عليه طابع “الإستثنـــاء” بكل المقاييــس ابتدأ غضون أواسط شهر دجنبر من سنـة 2013 وإنتهى بتوقيع محضر الخروج بتاريخ 22 يوليوز من سنة 2014 .. أما مجال الأحداث فقد كان ” المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين ” بجهة دكالة عبـدة .. مع امتدادات مكانية شملت أيضا مؤسسات التطبيق وما أفرزته من لحظات استحقت أن تترجم إلى يوميات …وسوق السعادة والكورنيش والحي البرتغالي وغيرها … هذه اليوميات إذن .. ما هي إلا محاولة متواضعة لرصد جانب من موسم تكويني في سنة إستثنائية  وفي مركز إستثنائي .. عسى أن ينوب “الجزء” عن “الكل” وما النجاح والتوفيق إلا من عند الله عز وجــل …

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص المحتوى والإعلانات، وذلك لتوفير ميزات الشبكات الاجتماعية وتحليل الزيارات الواردة إلينا. إضافةً إلى ذلك، فنحن نشارك المعلومات حول استخدامك لموقعنا مع شركائنا من الشبكات الاجتماعية وشركاء الإعلانات وتحليل البيانات الذين يمكنهم إضافة هذه المعلومات إلى معلومات أخرى تقدمها لهم أو معلومات أخرى يحصلون عليها من استخدامك لخدماتهم.

اطّلع على التفاصيل اقرأ أكثر

موافق