مقدمة
خمسـة وثلاثـون سـنة قضيتهـا بقبـة البرلمـان، اجتهـدت مـن خلالهـا ألتمـم مـا تعلمتـه فــي الحيــاة، كانــت مهمتــي بســيطة بهمهــا، بأجرهــا، وأيضــا بتاريخهــا الوطنــي الملــيء بالمآسـي والمفاجئـات، ولكنهـا فـي الحقيقـة، علمتنـي أن أكـون كمـا أنـا اليـوم، أن لا أقـف مكتــوف اليــد، منقطــع النفــس والــروح، وأن لا أســعى إلــى تحقيــق ذاتــي وطموحاتــي، فكنـت أعمـل بجـد وحمـاس منقطـع، أتحـرك كفراشـة تطيـر مـن هنـا إلـى هنـاك أرتشـف رحيـق كل المحيـط الـذي أنـا موجـود بداخلـه..
بـدأت فـي الإنتـاج والعطـاء تلـو العطـاء، تقدمـت بالأعمـال والإقتراحـات التـي لهـا صلةــ بالمؤسسةــ التشريعية، فقــد كان مــآل كل اقتراحاتــي وأعمالــي الموازيــة هــو ســلة المهملات كما يفعل ون بـكل المقروءات، لدرجـة سـماني بعدهـا البعـض بـ”ميخالـة”، لأنني جمعـت كل مـا وقـع فـي طريقـي كمـا هـم دافعـو العربـات فـي شـوارع مدننـا كل مسـاء، ولقبنـي الآخـر بالفنـان، ربمـا إدراكا منـه بهوايتـي للمسـرح فـي عنفـوان شـبابي، ويحلـوا للبعـض أن ينادينـي بمـؤرخ البرلمـان…
كنــت أســترق النظــر إلــى كل مــا حملتــه مــن أوراق طيلــة خمســة وثالثيــن ســنة، وكانـت جنـون روحـي المبدعـة تتلقـف كل مـا يـدور حولهـا مـن مشـاهد وصـور، منتقـدة مــرة، ومشــمئزة مــرات عديــدة…
جالــت فــي ذهنــي كثيــر مــن الأوهــام الفكريــة، نعــم، ســأجمع كل مــا يلقونــه فــي أدراجهـم وال يقرؤونـه، وسـأصرفه للمتعطشـين إلـى المعرفـة المهملـة مثلـي، وقلـت يومـا فـي نفسـي كلمـة قالهـا أرخميـدس: اقتبسـتها مـن أحـد المسـرحيات التـي كنـت أشـخصها فــي شــبابي بمدينــة فــاس، “وجدتهــا”.
حصيلـة هـذه الكلمـة الآن هـي أكثـر مـن ثمانيـن عمـا توثيقيـا تتصـل كلهـا بالمؤسسـة التـي آوتنـي منـذ زمـان. وإصـدار اثنـي عشـر كتابـا موجـودة بالمكتبـات داخـل المغـرب وخارجـه، وأخـرى تحـت الطبـع، وأخـرى بيـن يـدي.
لـم يكـن همـي هـو الإصطفـاف فـي صـف الإنتهازييـن والوصولييـن، ولـم أكـن مـن طالبــي الإمتيــازات والترقيــات أو توظيــف أبنائــي المعطليــن رغــم وجــود موظفيــن مــن اثنيــن إلــى خمســة أفــراد داخــل المؤسســة التشــريعية مــن نفــس الأســرة، ولــم أتحجــج بالشـواهد الطبيـة للتغيـب ولـو ليـوم واحـد عـن العمـل، كنـت أضحـي بعطلتـي السـنوية، فحــال الولاية التشــريعية السادســة 1997/2002 لــم أســتفد طيلــة خمــس ســنوات إلا بـ21 يومـا فقـط، لكـن، مـاذا وجـدت؟ وجـدت، أننـي فـي نظـر الكثيريـن ذلـك الرجـل البســيط أو المحظــوظ الــذي جــاء مــن ورشــة أبيــه فــي حرفــة “الخــرازة” ليعمــل دفعــة واحــدة فــي البرلمــان، ولا مــكان لــه بيــن عليــة القــوم، فبــدأت معــاول الهــدم والدســائس تحـاك مـن هنـا وهنـاك.
لقـد خدمـت مصـدر رزقـي بنزاهـة وإخـاص، ولـم ألـق مـن ماسـكي مفاتيح المؤسسـة التشــريعية علــى مــر عقــود إلى اللامبــالاة والدســائس والحكــرة وإذلال الكرامــة حتــى التـراب، ولهـم كلهـم أقـول اليـوم، شـكرا علـى مـا فعلتـم بـي، فلـو لـم تطغـوا فـي حقـي، وتبطشــوا بوضعــي، لمــا وجدتــم اســمي فــي كل خزانــات ومكتبــات الدنيــا، لمــا وصلــت إصداراتـي للجامعـات الكبـرى مـن قبيـل جامعـة أوكسـفورد بإنكلتـرا وهارفـارد بأمريـكا ومكتبـة الكونغـرس الأمريكـي فـرع القاهـرة، ولمـا شـرفتني القنـاة الأولـى والثانيـة للتلفـزة
المغربية علــى إبداعاتــي فــي مجــال الإصــدارات، ولمــا تصــدرت صــوري واجهــات الجرائـد الوطنيـة تقديـرا منهـا أعمالي التوثيقيـة والتعريـف بكتبـي، ولمـا عرفـت الأجيـال التـي سـتأتي بعـدي، بـأن مواطنـا بسـيطا اسـمه عبـد الحـي بنيـس، مـر مـن هنـا…
وفــي نهايــة هــذا الجــزء مــن مذكــرات “شــاوش فــي البرلمــان”، أتقــدم بالشــكر والإمتنـان للرجـال والنسـاء الشـرفاء الأجـلاء الذيـن وجدتهـم فـي مسـيرتي الإداريـة الذيـن كانوا يقــرون مـا أقـوم بـه، وكانـوا يقدمـون لـي النصـح والتشـجيع والدعـم وهـم قلـة، فقـد تعلمـت منهـم الشـيء الكثيـر، تعلمـت معنـى المسـؤولية والواجـب واإلخـاص فـي العمـل وحـب الوطن، فلهم مني ألف شكر.
كما أتقدم بالشكـر الجزيل للأخ الصحافــي المقتــدر احترامــا لرغبتــه بعــدم ذكــر اســمه، والــذي أجــرى معــي حــوار هــذه المذكــرات لقرابــة مائــة يــوم حيــث أجبــت فيهــا علـى حوالـي 200 سـؤال تتعلـق بسـيرتي الذاتيـة منـذ والدتـي إلـى أن أحلـت علـى التقاعـد.
عبد الحي بنيس
الرباط: 08 ماي 2013