الصحافة _ وكالات
لطالما كان فن الراب متمردا على واقعه. وقد صدرت مؤخرا أغنية في المغرب وصلت بانتقادها للمؤسسة الملكية لكنها حملت في الوقت نفسه نظرة سوداوية للأوضاع. فعلى ماذا ركزت حتى نالت شهرة واسعة؟ وما أسباب انتشار هذا النوع من الفن؟
رسائل نقد قاسية موجهة للسلطة، كانت تلك التيمة الكبرى لأغنية اختارت لازمة “عاش الشعب” عنوانا لها، وهي لازمة تكرّرت في السنوات الأخيرة، في مواجهة لازمة “عاش الملك” التي كثيراً ما رفعت في احتفالات وحتى خلال مطالب يوجهها جزء من الشعب للمؤسسة الملكية.
تجاوزت الأغنية في ظرف ستة أيام حاجز 8.5 مليون مشاهدة، أداها ثلاثة شباب معروفين بألقاب: لكناوي، لزعر، ولد لكرية. واختار كل واحدٍ منهم أن يركز على شق معين، فـ “لزعر” ركز على معاناة عدة طبقات اجتماعية في المغرب وعلى حجم “الفساد” في البلاد، بينما ركز لكناوي على تجربته الخاصة مع الفقر، فيما أرسل ولد لكرية نقداً صارماً للسلطة.
لماذا نجحت الأغنية؟
“نعاني نفس ما يعانيه الكثير من الشباب المغاربة، ولم نخطط لهذه الأغنية سابقاً، بل أخذنا قلما وكتبنا ما نحس به ثم غنيناه”، يقول يحيى السملالي، الملقب بـ”لزعر”، لـDW عربية، مؤكداً أن الثلاثة لم يكونوا يتوقعون نجاح الأغنية بهذا الشكل.
وإذا كانت الأغنية قد حققت نجاحاً باهراً في يوتيوب، فإنها خلقت انقساماً بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، خاصةً حول جزئها الثالث الذي احتوى على كلمات تناولت الملك شخصيا. ففي الوقت الذي يجمع فيه كثيرون على تردي الأوضاع الاجتماعية، فإن الهجوم المباشر على المؤسسة الملكية خلق انتقاداتٍ للأغنية، ما حدا بعدة مواقع وصفحات للتحفظ عن مشاركة رابطها.
في المقابل يحاجج آخرون قائلين إن كلمات الراب كثيراً ما تجنح نحو مثل هذه اللغة، والدليل على ذلك أن أغنيتي راب احتلتا الصدارة قبل أشهر بالمغرب، كانتا عبارة عن “معركة” غنائية باستخدام الشتم والكلام النابي، أحد أطرافها سبق له أن نال وساماً ملكياً.
ويقول السملالي أو “لزعر” إن من المتعارف عليه في أغاني الراب أن كلّ فرد يكتب ويغني ما يحسّ به وبالتالي ما يتحمل هو مسؤوليته، فكل واحد في مقطع “عاش الشعب” غنى بتفسيره الخاص، لكنه يستدرك قائلا إن المقطع يتحدث عن مجموعة أشخاص “يسبّبون ضرراً للبلاد ويعادون الشعب”.
“هذا الشريط هو تعبير سياسي غير رسمي، تماماً كما وقع مع حملة المقاطعة عام 2018. هو نشاط سياسي خارج قنوات التواصل المؤسساتية بين المجتمع والدولة، نتيجة ضعف مؤسسات الوساطة في إيصال مطالب المواطنين للدولة”، يقول محمد مصباح، رئيس المركز المغربي لتحليل الدراسات، لـDW عربية، مبرزاً كذلك أن اهتمام الدولة بالمعارضة الكلاسيكية فقط، جعل الأولى تغفل عن إمكانية ظهور تعبيرات معارضة على الهامش كما جرى مع هذا الشريط.
تفاعل بسبب الإحباط
يواجه المغرب تحديات اجتماعية كبيرة، اعترفت بها الدولة أكثر من مرة، ومثال ذلك ما جاء في خطاب عيد العرش للملك محمد السادس عام 2017 حين عبر عن صدمته من ما وصفه بـ “تواضع الإنجازات في بعض المجالات الاجتماعية، حتى أصبح من المخجل أن يقال إنها تقع في مغرب اليوم”.
وسبق للمندوبية السامية للتخطيط (مؤسسة رسمية) أن أشارت إلى أن 29.3 % من الشباب المغاربة بين 15 و24 عاماً لا يعملون ولا يدرسون ولا يتابعون أيّ تكوين. كما يشهد المغرب مؤخراً تنامياً للهجرة، سواء بشكل نظامي أو غير نظامي، إذ تربع المغاربة على رأس المهاجرين الذين وصلوا إسبانيا عبر السواحل عام 2018، بنسبة 21 % من أصل 57 ألف مهاجر. ليس هذا فحسب، بل إن الهجرة صارت تمسّ أصحاب الشهادات العليا، إذ كشفت إحصائية لموقع rekrute أن 91 بالمئة منهم يرغبون في العمل في الخارج، رغم أن نسبة منهم تعمل في البلد.
ويشير محمد مصباح إلى أن هناك حالة إحباط بين الشباب المغاربة، لاعتقادهم أن الأفق مسدود، مشيرا إلى أن العامل الاقتصادي ليس هو المتحكم الوحيد في الإحباط الجاري، بما أن الفرص الاقتصادية في المغرب ليست سيئة تماما، بل انعدام الثقة في العملية السياسية ككل، وعجز الدولة عن تنفيذ وعودها، خاصة منذ عام 2016.
لكن بعض الانتقادات على الأغنية ركزت على أن كلّ هذا التغني بالشعب قد لا يعبرّ عن حقيقة ما يجري في المجتمع المغربي. وهنا يرّد السملالي قائلا: “ليس كل من هو داخل الدولة فاسد وليس من هو بين عموم الشعب صالح”، كما أن “الراب” يشكل فناً للاحتجاج على كل الأصعدة بما فيها ما هو اجتماعي، لكن أن الأغنية لا يمكنها كسب ود الطرفين معاً في آن واحد، يستدرك المتحدث، ولذلك اختارت التوجه نحو الفئة الأقرب للمغنين الثلاثة.
الغناء ضد الدعاية
رغم محاولة السلطة الاستثمار في وسائل التواصل الاجتماعي عبر تقوية حضور إعلامها، ورغم الترسانة القانونية التي شدّدت الخناق على ما ينشر إلكترونياً، وتراجع دور الصحافة المستقلة وغلبة صوت شبه موّحد بين جلّ المنابر الإعلامية، إلّا أنه بين الفينة والأخرى، تظهر مقاطع فيديو ومنشورات تؤكد من جهة أن رهان الدولة لضبط الإنترنت مستحيل.
بيدَ أن هناك جانباً آخر في الموضوع، يتعلّق بالغناء في حد ذاته، ففي الوقت الذي يجنح فيه أغلب المغنين المغاربة إلى الإشادة بالدولة ورموزها، فإن فن الراب بقي منقسماً حيال هذا الموضوع، بين جزءِ يشارك الاختيار “المهادن”، وجزء آخر يحاول البقاء على خط الحياد حُيال السلطة، وجزء ثالث لا يتردد في بثِ أغانٍ ساخطة على الوضع، لا وجود فيها لأيّ مكابح لدرجات الانتقاد. وليست أغنية “عاش الشعب” الوحيدة، بل هناك مغنون آخرون اشتهروا بمقاطع في هذا السياق، جلهم لا تتم دعوتهم للمهرجانات العمومية، ومنهم من يعلن بصراحة عن اختيارات سياسية معارضة تماماً لتوجهات الدولة.
وفي رأي مصباح، فالدول عموماً في المنطقة العربية تسعى إلى “تدجين” جميع القوى التي يمكن أن تؤثر على الرأي العام، ولذلك تركز على الفن الجماهيري، لكن “لا يمكنها ضبط جميع الفاعلين في حقل معين، فدائماً هناك فئات تنفلت من هذا التدجين، كما يحدث في المجال الفني الذي يبقى بطابعه منفلتاً، لا سيما مع وجود طلب جماهيري على خطابات هذه الأشكال الفنية” يوضح مصباح.