الصحافة _ كندا
في ظرف لم يتجاوز ثلاث سنوات، عرف جهاز “أنابيك” – الذي يُفترض أن يشكّل ركيزة مركزية في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للتشغيل – تعاقب ثلاثة مديرين عامين، آخرهم السيدة إيمان بلمعطي التي أُعفيت بطريقة غير رسمية عبر تسريب موجّه من داخل وزارة يونس السكوري، مرفق بلغة تبريرية تُحيل كل أزمة التشغيل في المغرب إلى شخصٍ واحد، يُقدَّم فجأة كـ”سبب مباشر” في انهيار المؤشرات.
من منظور مؤسساتي، هذا الإعفاء ليس إجراءً إداريًا عاديًا، بل عنوانٌ صريح على ارتباك السياسة العمومية للتشغيل، وضعف الحكامة في تدبير المؤسسات الاستراتيجية، وفقدان الرؤية التي تتطلبها معركة كبرى مثل الإدماج الاقتصادي، في ظل ظرفية وطنية ودولية دقيقة.
إعفاء بلمعطي، التي لم تمض سوى 14 شهراً على تعيينها رسمياً – بعد أن كانت ضمن دائرة المقربين من الوزير نفسه – لا يمكن قراءته خارج منطق التملّص من المسؤولية السياسية. فهي، قبل هذا المنصب، كانت مديرةً في الوزارة، ومستشارةً بديوانه، بل من اقتُرحت من طرفه شخصيًا لرئاسة “أنابيك”. فهل كانت الكفاءة حين اختارها، وأصبحت فجأةً عنوانًا للفشل حين ارتفعت أرقام البطالة؟
السؤال الحقيقي اليوم لا يتعلق بأداء بلمعطي، ولا بمن سبقها، بل بمآل السياسة العمومية للتشغيل التي يشرف عليها السكوري، والتي فشلت في بلورة رؤية متماسكة قادرة على خفض معدلات البطالة، وإحداث التقاء حقيقي بين التكوين المهني، والاستثمار، والمقاولة الوطنية.
ففي عهد هذا الوزير، سجّل المغرب واحدة من أسوأ النسب في تاريخه الحديث: 21.3% وفق المندوبية السامية للتخطيط، وهو رقم لا يعكس فقط ضعفاً في الأدوات، بل اختناقاً في النموذج، وغياباً للانسجام بين القطاعات الحكومية، وتراجعاً مقلقاً في فعالية الوساطة العمومية في سوق الشغل.
إن تغيير المسؤولين الإداريين بوتيرة متسارعة – دون إصلاح البنية العميقة التي تُنتج الفشل – لا يعدو أن يكون محاولة للالتفاف على أصل الداء. فكيف يُعقل أن تُعفى ثلاث قيادات متعاقبة داخل مؤسسة واحدة في أقل من أربع سنوات، من دون أن تمسّ المساءلة السياسية الوزير المشرف على كل هذه الاختيارات؟
هذا النزيف المؤسساتي يطرح سؤالًا مقلقًا حول مفهوم الاستمرارية الإدارية والاستقرار الاستراتيجي، ويُبرز مفارقة بنيوية في تدبير ملفات السياسات العمومية: حين تُفشل المقاربة السياسية، يُضحّى بالإداري.
فـ”أنابيك” ليست هي المشكل، بل غياب سياسة تشغيلية وطنية مندمجة، تربط بين مؤشرات الاقتصاد الكلي، وتحولات سوق العمل، وقدرة الدولة على الحماية الاجتماعية والإدماج المستدام. والمفارقة أن الحكومة الحالية، التي رفعت شعار “فرص الشغل”، لم تقدّم إلى اليوم أي هندسة واقعية لهذا الشعار، بل اكتفت بتغيير الوجوه، في مسرح بيروقراطي لا يؤثر في العمق.
أمام هذا الوضع، يُطرح السؤال الجوهري: إلى متى ستظل الحكومة تتعامل مع التشغيل بمنطق العلاقات والمواقف، لا بمنطق التقييم السياساتي والإصلاح العميق؟ ومتى ستُستبدل سياسة تحميل المسؤولية للأفراد، بمساءلة حقيقية للخيارات الفاشلة، والبرامج غير المنتجة؟
لقد بات من الضروري إعادة التفكير في المنظومة ككل، من مدونة الشغل، إلى حكامة الوساطة العمومية، إلى العلاقة مع القطاع الخاص، بدل الاستمرار في إنتاج نفس الأخطاء، وتوقّع نتائج مختلفة. ذلك أن ما يحدث اليوم داخل “أنابيك” لا يمس فقط مؤسسة عمومية، بل يطعن في ثقة المواطن بالدولة، ويُعمّق الفجوة بين وعود التشغيل وواقع العطالة.