كولين سيرو تكتب: العالم الذي كان يمشي على رأسه بدأ يرتب أفكاره ترتيبا صحيحا

16 أبريل 2020
كولين سيرو تكتب: العالم الذي كان يمشي على رأسه بدأ يرتب أفكاره ترتيبا صحيحا

بقلم: كولين سيرو*

الحكومة الفرنسية تدير أزمة الوباء كما اتفق … ولكن المواقف الحربية غالبا ما تكون غير فعالة في مواجهة قوى الطبيعة. الفيروسات كائنات قوية، قادرة على تعديل الجينوم البشري ولذلك يجب أن نتعامل معها، إن لم يكن باحترام، على الأقل بقليل من التواضع.

دعونا نتعلم البقاء على قيد الحياة بحضورها ، ونحمي أنفسنا من خلال منح الجنس البشري ظروفا صحية مناسبة تعزز مناعته وتعطيه القدرة على مواجهة ضرر الميكروبات والفيروسات التي تحيط بنا من كل جانب، لأننا نعيش في هذا الكون العظيم حيث يجب أن يكون لكل مخلوق مكانه. إن الحرب ضد الفيروسات معركة خاسرة مسبقا، ولكن يمكن أن نربح معركة التوزان بين حياتنا وحياتهم إذا عززنا جهاز المناعة لدينا من خلال نمط حياة غير مُميتة.

وفي هذه الأزمة، ما هو مذهل هو السرعة التي يتجلى بها الذكاء الجماعي والشعبي.

في غضون أيام قليلة، أقام الفرنسيون طقوس شكر على نطاق واسع، وهي واحدة من أجمل الإيماءات السياسية التي عرفتها فرنسا والتي تبدو كامتداد للإضرابات ضد إصلاح نظام التقاعد وحركة السترات الصفراء من خلال الصراخ بصوت مرتفع للدفاع عمّن وعمّا هو مهم في حياتنا.

في بلدنا، أولئك الذين يتولون المناصب الأساسية، وأولئك الذين يمكّنون المجتمع من الصمود، يتقاضون أجورا زهيدة ويتعرضون للاحتقار، يتقاضى مساعدو التمريض والممرضات والأطباء العاملون في المستشفيات العامة وموظفو المدارس والمعلمون والأساتذة والباحثون رواتب بائسة بينما يتقاضى البلهاء الشباب المتغطرسون ملايين اليورو شهريا لوضع كرة في وسط سلة أو يقذفونها في شبكة.
في عالمنا أصبحت كلمة البدوي إهانة، ولكن الناس الذين يسمون أنفسهم “المزارعين” يتسلمون مئات الآلاف من اليورو لقتل أرضنا وأجسادنا وبيئتنا في حين تزدهر الصناعة الكيميائية.

والآن جاء هذا الفيروس الصغير ليضع الأمور في نصابها الصحيح وهاهم الناس وراء النوافذ وهم يعيشون كالمحاصرين في بيوتهم ، يصرخون للتعبير عن احترامهم وحبهم وامتنانهم للجنود الحقيقيين في عصرنا، أولئك الذين هم على استعداد للتضحية بحياتهم لإنقاذ حياة الآخرين في حين أن الحكومات المتعاقبة عملت جاهدة لعقود لتفكيك أنظمتنا الصحية والتعليمية، بينما جماعات الضغط تتحكم في السياسيين وتغدق عليهم أموال الرشوة والفساد.

ليس لدينا المال لتجهيز مستشفياتنا، ولكن لماذا لا نأخذ المال حيث يوجد بوفرة ؟ألا يجب على شركات التكنولوجيا أن تدفع الضرائب وتعيد إلى المجتمع على الأقل نصف مداخيلها؟ ثم، آلا يجب أن نسأل ونتساءل كيف كسبوا هذا المال؟ لقد ربحوه لأن هناك أناساً يصنعون الأمم والبلدان المجهزة بالشوارع والطرق السريعة والقطارات والمجاري والكهرباء والمياه الجارية والمدارس والمستشفيات والملاعب، وما إلى ذلك، لأن المجتمع دفع كل تلك الأموال، ومن خلال كل هذه البنى التحتية يمكن لهذه الشركات أن تحقق أرباحاً خيالية . لذا على أصحاب هذه الشركات أن يدفعوا ضرائبهم ويعيدوا للشعوب ما تستحقه لأنه مِلكها.

وربما يتعين علينا أيضا أن نعيد النظر في مسألة الديون التي تدمرنا من خلال إثراء الأسواق المالية. في القرون الماضية قرر ملوك فرنسا بانتظام إلغاء الدين العام وإعادة العداد إلى الصفر.

لا أرى عندما نخرج من هذه الأزمة، عندما تكون الحسابات المصرفية للصغار فارغة، عندما لن تتمكن الشركات بعد الآن من دفع رواتب موظفيها الذين لن يتمكنوا بدورهم من دفع مصاريف الإيجار والكهرباء والغاز والغذاء، كيف يمكن للحكومة أن تستمر في إهدار 90% من ميزانيتها لسداد دين لا يستفيد منه سوى أصحاب الأبناك.

وأتمنى أن يقف الشعب ويطالب بحقه، أي المطالبة بإعادة توزيع ثروة فرنسا، التي ينتجها الشعب، على الشعب وليس على مؤسسات التمويل الدولي. وإذا تخلفت بلدان أخرى أيضا عن سداد ديونها المستحقة لنا، سيتعين علينا أن نعيد الصناعات إلى فرنسا وننتج مرة أخرى في مصانع الداخل كما كنا نفعل من قبل وأن نرضى بمواردنا الهائلة، وأن نفكك آليات هذه العولمة التي لم تفلح إلا في إفقارنا.

وقد فهم الناس ذلك جيدا لدرجة أنهم يصرخون كل ليلة للتعبير عن احترامهم لأولئك الذين يشتغلون من أجل علاج المرضى وعن احترامهم للأمهات والنساء والرجال الذين يعتبرون الإنسان قبل المال، فلا تخطئوا، لن تكون هناك عودة إلى الوراء بعد هذه الأزمة.
لأنه على الرغم من هذه المعاناة، وعلى الرغم من الفجيعة الرهيبة التي تصيب العديد من الأسر، وعلى الرغم من الحجر الذي يدفع فقراؤنا ثمنه، أي الشباب وكبار السن المعزولين أو المحاصرين في مؤسسات العجزة، والعائلات الكبيرة التي مكثت في المدن ، وغالبا ً في مساكن صغيرة جداً، على الرغم من كل هذا، فإن العالم الذي كان يمشي على رأسه يعيد ترتيب أفكاره وقواعده . أين هي القيم الحقيقية؟ ما هو المهم في حياتنا؟ أن نعيش تقريباً؟ أن نتناول منتجات من أرض أنهكتها السموم والمبيدات وهي منتجات تسمم أجسادنا؟ هل يجب أن نستمر في العمل المضني لإثراء من يحصلون على مكافآت ضخمة كلما قرروا تسريح العمال؟ وهل يجب الاستمرار في قبول العنف الاجتماعي من طرف الذين أفقروا نظام الرعاية ولا يكفون عن إعطائنا الدروس في التضامن؟

هل يجب أن نستمر في إن الاعتماد على نوع من الطب لا يعالج إلا الأعراض دون الاهتمام بالوقاية، وهو طب يحشو الناس بالأدوية التي تقتلهم ببطء أكثر مما تعالجهم؟ وهو طب خاضع لرغبات شركات الأدوية؟

بينما الدواء الوحيد الصالح هو الذي يتعامل مع البيئة الصحية للبشر ، والتي تحظر جميع السموم ، حتى لو كانت تعود بالأرباح الطائلة. لماذا تعتقدون أن هذا الفيروس الذي يصل إلى الرئتين ينتعش بشكل جيد؟ لأن رئاتنا أصبحت مريضة من التلوث وضعفها يوفر مرتعا ملائما للفيروسات.

في الفلاحة ، كلما اعتمدنا على الزراعة ذات المردودية الكبيرة لاستنبات نباتات و أغراس متحولة وراثياً أو هجينة ً على عشرات الهكتارات من الأراضي المريضة، كلما زاد عدد الكائنات المفترسة، أو الأوبئة التي تهجم عليها، كلما احتجنا للمزيد من المبيدات وهذا هو الطريق السهل نحو الحلقة المفرغة التي لا تؤدي إلا نحو المزيد من الكوارث.

ولكن لا تسقطوا ضحية الأوهام، إنهم يعاملون الناس البسطاء بنفس الطريقة التي يعاملون بها النباتات والحيوانات.

في المدن الكبرى في جميع أنحاء العالم، كلما زاد عدد الناس المتكدسين في البيوت والذين يعانون من سوء التغذية، ويتنفسون الهواء الملوث الذي يضر برئتيهم، كلما أصبحت الفيروسات و”الآفات” الأخرى على استعداد لتهاجم نقطة ضعفهم: جهازهم التنفسي.
هذا الوباء، إذا كان لدينا الذكاء لتحليل مصدره وكيفية مواجهته من خلال الوقاية بدلا من اللقاح فقط، يمكن أن يوقظ السياسيين والسكان ويفهمهم أن اتباع نظام غذائي صحي والعيش في بيئة سليمة هو السبيل الوحيد الذي سيسمح لنا بالدفاع عن أنفسنا بفعالية وعلى المدى الطويل ضد الفيروسات.

إن الحجر الصحي له أيضا عواقب عقلية واجتماعية هامة بالنسبة لنا جميعا، لقد اكتشفنا فجأة أن الكثير من الأشياء التي كنا نعتقدها حيوية وضرورية ما هي إلا سخيفة ولا فائدة فيها مثل الإكثار من شراء الملابس. وهذا الاكتشاف سيعود علينا بالنفع لأننا لن نبذر مالنا في اقتنائها.

وبما أننا لن نضيع وقتنا في الازدحام في وسائل النقل الملوثة ، فسوف ندرك فجأة أن لها مفعولا مدمرا وأن الاكتظاظ يولد الكراهية والسلوكيات العدوانية بين الناس كما أننا سوف نأخذ الوقت الكافي لطهي الطعام بدلا من الوجبات السريعة، ونحن نتبادل أطراف الحديث بما فيه من فكاهة وإبداع.

إن العمل عن بعد يتزايد بسرعة ، وسيسمح في وقت لاحق لعدد كبير من الناس بالعيش والعمل في البادية بدل المدن الكبرى التي ستعرف تراجع الازدحام. وفيما يتعلق بالثقافة، تعلمنا الشعوب دروساً رائعة: فالثقافة ليست وسيلة للدعاية التجارية ولا مصدراً للربح، ولا ملكاً خاصا بنخبة تريد ترسيخ تفوقها وهيمنتها بل إن الثقافة هي التي تلتقي حولها الشعوب والفئات المختلفة وهي التي تواسينا في وقت الشدائد وتسمح لنا بالعيش وبمشاركة مشاعرنا مع الآخرين من أبناء البشرية.

ما الذي يمكن أن يكون أسوأ من الحجر الصحي من أجل التواصل؟ ومع ذلك فإن الإيطاليين يغنون على الشرفات، رأينا رجال شرطة ينشدون المواويل للبدويين لتسليتهم، وفي شوارع باريس كلها تنظم حفلات مسائية تتخللها قراءات للقصائد الشعرية تعبيرا عن الشكر والامتنان، هذه هي الثقافة الحقيقية، الجميلة، الثقافة العظيمة التي يحتاجها العالم، والتي يمكنها أن تطرد الوحدة. إنها عكس ثقافة السخافة، ثقافة الأجهزة الحكومية التي لا تهتم أبداً بتلبية احتياجات الناس ولا بإنتاج وتقديم ما يحتاجه المواطنون حقا من أجل العيش بل لا تعرف إلا تمجيد النخب الحاكمة واحتقار أي مظهر ثقافي يرضي البسطاء. وبهذا المعنى، فإن إلغاء مهرجان كان السينمائي قرار صائب وهو نبأ سار.

بعد اندلاع الفضائح المدوية حول التلاعب بالجوائز السينمائية منذ سنوات من طرف تلك المافيا الغامضة و غير الديمقراطية وبعد فضائح الاعتداء الجنسي في مجال الفن والسينما، والتي لم يكشف سوى عن جزء صغير منها، سيصبح مهرجان كان السينمائي موضوع مراجعات عميقة لكي يعيد بناء نفسه على أسس سليمة ويتخلص من قبضة صناعة الترف الفاسدة واللحم الأنثوي الجاهز حيث يتم استغلال نساء فقيرات يرتدين ملابس شفافة تتلاعب بها العلامات التجارية وكأنهن في سباق للتعري من أجل إرضاء نزوات بعض الرجال دون اعتبار للموهبة الفنية، فهل هو مهرجان فني أم مهرجان الدعارة؟

وأخيراً، أود أن أوجه كلمة رقيقة إلى المرضى وأحبائهم، وأقول لهم إننا نتمنى لهم العافية من أعماق منازلنا أو شققنا، ولا نتوقف عن التفكير في معاناتهم. أنا لست مؤمنة وقد كنت من قبل أسخر من منظر الصلوات ، لكنني الآن أصلي وأرفع الدعاء من أجل أن يشفى كل هؤلاء الناس لكن الصلاة لن تكون بديلا عن رعاية المستشفى، ولا عن التفاني البطولي لمقدمي الرعاية ولا عن سياسة صحية جديرة بهذا الاسم، ولكن هذا هو كل ما يمكنني فعله اليوم ، لذلك أفعله، على أمل أن تحمل موجات الأثير رسالتي ورسائلنا ومحبتنا ومشاعر أملنا لكل المحتاجين إليها.

ترجمه إلى العربية: أحمد ابن الصديق
كولين سيرو، ولدت في 29 أكتوبر 1947 في باريس، هي ممثلة فرنسية ومخرجة وكاتبة سيناريو وملحنة ومشرفة على فرقة غنائية. وقد كتبت وأخرجت أفلام “Trois hommes et un couffin” و “La belle verte ” و “La crise”.

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص المحتوى والإعلانات، وذلك لتوفير ميزات الشبكات الاجتماعية وتحليل الزيارات الواردة إلينا. إضافةً إلى ذلك، فنحن نشارك المعلومات حول استخدامك لموقعنا مع شركائنا من الشبكات الاجتماعية وشركاء الإعلانات وتحليل البيانات الذين يمكنهم إضافة هذه المعلومات إلى معلومات أخرى تقدمها لهم أو معلومات أخرى يحصلون عليها من استخدامك لخدماتهم.

اطّلع على التفاصيل اقرأ أكثر

موافق