بقلم: مراد بورجى
في خضمّ الجدل الدائر حول دعوة الملك محمد السادس إلى عدم ذبح الأضاحي (وليس عدم ذبح الأكباش)، هناك سؤالان أساسيان يطرحان نفسيهما بقوة: ماذا سيفعل “تجّار الأزمات” مع صفقات استجلاب قطيع الأغنام والأبقار، بعدما لم يعد لها دور في تلبية جشعهم لتحقيق الأرباح الفاحشة؟ وقبل ذلك وبعده، لماذا ظل رئيس الحكومة عزيز أخنوش مصرّا على ذبح الأضحية قبل أن يتلقى صفعة مدوّية من إمارة المؤمنين؟
إمارة المؤمنين في النظام السياسي
أثارت دعوة رئيس الدولة الملك محمد السادس إلى عدم ذبح الأضحية الكثير من الجدل خارج المغرب، أكثر منه داخله، لأن “الخارج” قد لا يفهم، أو بالأحرى قد لا يدرك خصوصية تلك العلاقة الخاصة والعميقة التي تربط العرش بالمغاربة، الذين لا يرون في الملك رئيس الدولة فقط، بل ينظرون إليه، أيضا، باعتباره أمير المؤمنين، حامي حمى الملة والدين، وضامن الأمن والاستقرار للبلاد والعباد… وهذا طبيعي، لأن مسار تشكّل مؤسسة إمارة المؤمنين بالمغرب، رغم استنادها إلى مرجعية الإسلام، بُني على أسس مستقلّة (ليس هنا مجال التفصيل فيها) عن الخلافة المشرقية، منذ تأسيس أول دولة إسلامية بأقصى غرب شمال إفريقيا، دولة الأدارسة، في القرن الثاني الهجري (القرن الثامن الميلادي)، وصولا اليوم إلى دولة العلويين الشريفة، التي مثّلت، مع الملك محمد السادس بن الحسن العلوي، نموذجا متقدما لارتباط المملكة بأرض المغرب بكل مكوناتها الموحَّدة في تنوعها وتعددها، كما جسّدها دستور 2011، الذي دقّق تصديره في مرجعية وهوية الدولة المغربية الحديثة، بما هي “دولة إسلامية ذات سيادة كاملة متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية الموحدة بانصهار كل مكوناتها: العربية الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية، والعبرية والمتوسطية”، بل إن تصدير الدستور أعطى خصوصية مغربية للمرجعية الدينية نفسها بربط الدين الإسلامي، لدى الشعب المغربي، بـ”قيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء”.
عدم إدراك هذه الخصوصية المغربية له ما يبرّره، والجدل الذي يثيره أصحابه يبقى إيجابيا ومحمودا، وقد نقله العديد من النشطاء المغاربة إلى مجال النقاش العمومي، وكان مفيدا ومثمرا في تفاعله مع الخصوصية المغربية، وهذا بخلاف تلك “الحملات” المنظمة والممنهجة، والتي قام أصحابها بتسويق القرار الملكي باعتباره “منعا” موسوما بـ”الحرام”، لأنه “عطّل” شعيرة دينية هي سنّة نبوية مؤكدة من قلب الإسلام، مستهدفين “ترييب” دولة المغرب بضرب خصوصية تلك العلاقة بين الشعب والملك والنظام!
هذا النوع الأخير من الجدل لا تخفى مراميه بما تحمل من مناورات ومؤامرات، ليست هي موضوعنا هنا بعدما باتت مفضوحةً أمام الرأي العام الدولي ومسخرةً أمام المغاربة، إذ تكفينا فقط الإشارة إلى الارتياح العام الذي سرى في المجتمع المغربي، الذي سارع بناته وأبناؤه للتعبير عن فرحتهم بالدعوة الملكية، التي تجاوبت مع نبضاتهم، وترجمت تطلّعاتهم، التي عبّروا عنها طوال الفترة السابقة، حيث كان يجري الإعلان، بأساليب متعددة ومتنوعة، عن رغبات شعبية متنامية بإقامة شعيرة الأضحى لهذه السنة دون “طقس” ذبح الأضاحي. فالدعوة الملكية، مغربيا، جاءت منسجمةً مع وظيفة مؤسسة إمارة المؤمنين، وتنزيلًا للثوابت الدينية للمملكة المؤطّرة بدستور 2011، وبهذه الصفة، “أهاب”، وليس “منع”، أهاب “أمير المؤمنين” بالمغاربة بعدم إقامة طقس ذبح أضحية العيد، وذلك بصفة استثنائية هذه السنة، لكن مع الإبقاء على كل الطقوس الأخرى المرافقة للعيد، إذ مثلما أهاب بالشعب المغربي عدم ذبح الأُضحية، كما ورد في رسالة ملكية، فقد أهاب به كذلك أن يحيي عيد الأضحى “وفق طقوسه المعتادة، ومعانيه الروحانية النبيلة، وما يرتبط به من صلاة العيد في المصليات والمساجد،وإنفاق الصدقات وصلة الرحم، وكذا كل مظاهر التبريك والشكر لله على نعمه مع طلب الأجر والثواب”.
الدعوة الملكية، باستنادها إلى إمارة المؤمنين، تندرج في صلب مقاصد الدين الإسلامي في مراعاة أحوال الناس وظروفهم، ودفع الضرر والحرج عنهم، باستحضار “ما يواجه بلادنا من تحديات مناخية واقتصادية، أدت إلى تسجيل تراجع كبير في أعداد الماشية”، وباعتبار أن “عيد الأضحى هو سنة مؤكدة مع الاستطاعة”، وأن “القيام بها في هذه الظروف الصعبة سيلحق ضررا محقّقا بفئات كبيرة من أبناء شعبنا، لاسيما ذوي الدخل المحدود”، وفق ما جاء في الرسالة الملكية…
الملك يدين السياسة الفلاحية الفاشلة لأخنوش
من هذه الزاوية، تكون الدعوة الملكية تتضمّن، أيضا، شهادة إدانة من الجالس على عرش المملكة العلوية الشريفة “للمترامي” على كرسي رئاسة الحكومة، وتعبيرا عن عدم رضى الملك محمد السادس على سياسات عزيز أخنوش ومن معه، إلى الحد الذي يمكن فيه اعتبار الدعوة إلى عدم ذبح الأضاحي إعلانا مدويا عن حكم ملكي بواقع الفشل الحكومي! لقد وقف الملك إلى جانب الشعب ضد الحكومة، التي أعلن رئيسها بسكوته، في أكتوبر الماضي، بمجلس المستشارين، عن تأكيد إقامة طقس ذبح الأضحية، ويأتي أمير المؤمنين اليوم بعكس ذلك، ما يؤكد أن القصر ينأى بنفسه عن كل ما له صلة مباشرة بحكومة أخنوش ومن يشكّل بهم أغلبيته للبغي على الشعب.
الدعوة الملكية إدانة لعزيز أخنوش، كوزير للفلاحة منذ سنة 2007، وكمهندس لمخطط المغرب الأخضر”، الذي استعاره من مكتب دراسات أجنبي تلقّى نظيره أموالا ضخمة بالعملة الصعبة، قبل أن ينتهي إلى الفشل التام، بعد 12 سنة من العمل به، منذ بدايته سنة 2008 إلى نهايته سنة 2020، دون أن ينتج إلا الكوارث وتفاقم الإكراهات والتفريط في الحبوب والسكر والعدس والأرز والحليب وتجفيف الماء وارتفاع الأسعار، وزاد توالي سنوات الجفاف من حدّة وتعمّق الأزمات… وبكلمة: لقد أدى تدبير أخنوش لقطاع الفلاحة بأدوات مخطط المغرب الأخضر إلى إفراز أوضاع مختلة جعلت البلاد مهدّدة بالجوع والعطش!
إن السياسة الفلاحية المنتهجة، منذ سنة 2008، لم تحقق أي هدف من أهدافها، التي طالما أعلن عنها أخنوش بكثير من التفخيم والتعظيم والاعتداد حتى الاستكبار، دون أن تصل البلاد إلى الاكتفاء الذاتي الموعود في أي مادة من المواد الاستهلاكية الأساسية، بعدما تبيّن أن مخطط المغرب الأخضر الفاشل موجّه أساسا لخدمة طبقة محدودة من الفلاحين الكبار الذين يوجهون منتجاتهم للتصدير لتلبية جشعهم إلى جني الأرباح الطائلة دون أدنى اعتبار لتلبية احتياجات السوق الداخلية، وفي المحصلة، تتحوّل العملة الصعبة الموعودة من التصدير إلى مجرد وهم، إن لم نقل إلى نصب واحتيال، لأن المستفيد الأول والأخير هي أرصدة الفلاحين الكبار المحظوظين وليس خزينة الدولة، إذ تفيد تقارير مكتب الصرف إلى أن حجم الموارد المستوردة من المواد الطرية من الحبوب والذرة والقطاني بلغت حوالي 40 مليار درهم،في حين لم تتجاوز عائدات المواد المصدرة من الطماطم والفواكه وغيرها ما يناهز 30 مليار درهم، بعجز تجاري يفوق 10 ملايير درهم! دون الكلام عن “تطبيل” أخنوش بكون هذا المخطط كان سيساهم في خلق مليون ونصف المليون منصب شغل، لتكشف أرقام المندوبية السامية للتخطيط عن فقدان 247 ألف منصب شغل في مجال الفلاحة والغابة والصيد… هذا فضلا عن كوارث المخطط البيئية، ولاسيما في ما يتعلّق بالإجهاد المائي (القطاع الفلاحي يستهلك نحو 80 في المائة من موارد المياه المتجددة في المغرب)، حتى أن مجلس الحسابات سجّل أن نسبة استنزاف المخطط للمياه بلغت نحو 90 في المائة، قبل أن يضع مسألة الأمن الغذائي في قفص الاتهام بسبب “تبرّم” المخطط عن الزراعات التقليدية (قمح، شعير، ذرة، قصب سكر… إلخ)، التي قال قضاة مجلس الحسابات إن المغرب كان من منتجيها الكبار، وبعدما جاء المخطط الأخضر أصبح من مستورديها الكبار!
ونعود إلى طرح السؤال: لماذا عمد رئيس الحكومة عزيز أخنوش إلى “تأكيد” إقامة شعيرة الأضحى بذبح الأضاحي، ولماذا رفض الملك له هذه النيّة والرغبة والإرادة؟ الجواب بسيط جدا: لقد رأى المغاربة أجمعين، يتصدّرهم ملك البلاد، كيف “ضحك” أخنوش على الدولة وعلى الشعب، بإجراءات تزيد في تسمين الأغنياء وتجويع الفقراء، حين جعلت فئة من المستوردين “المحظوظين” يستفيدون مرتين، يلهفون من جهة مبالغ الدعم العمومي الباهظة (500 درهم عن كل رأس غنم)، التي وُزّعت “زعما” بهدف تخفيض الأثمان (أو “الثَّمَنات” حسب تعبير أخنوش)، ويلهطون من جهة ثانية جيوب الناس بإشعال النار في الأسعار، حتى أصبح معدّلها يتراوح بين 5 آلاف إلى أزيد من 10 آلاف درهم، أمّا ما دون ذلك من ماشية، فكانت أشبه بالقطط منها بالخرفان!
لا يمكن للملك أن يترك لأخنوش “التسيّب” ليعيد تلك المسخرة، التي تغدق العطايا على “18 من المضاربين” من تجار الأزمات الذي كان على وزير الصناعة مزور المطالبة بفتح تحقيق معهم… ونفش الشي مع مخطط المغرب الأخضر، الذي أثبت فشله الذريع منذ سنوات، دون أن يقوم أخنوش، ولو للحظة، بإجراء وقفة مراجعة وتقييم وتصحيح، وهو الأمر الذي كان الوزير يفرض عليه ستارا حديديا من الكتمان، إلى الحد الذي اضطرت معه وزيرة منتدبة سابقة في الماء، خلال حكومة سعد الدين العثماني، وهي القيادية شرفات أفيلال، التي كشفت، مؤخرا، أنها كانت “ممنوعة من تقييم مخطط المغرب الأخضر”، وقالت: “كان ممنوعا علينا القول بإخضاع المخطط للتقييم”، وأن “السياسة الفلاحية كانت وحدها التي لا يقيّمها إلا القائمون عليها”، وكشفت أفيلال كذلك أن كل من لم يلتزم بهذا المنع كان يتعرض لـ”الهجمات والضربات”! ولعل هذا ما يفسر الموقف “المتعنت” والمتهور” لوزير الفلاحة، آنذاك، في مواجهة رئيس المجلس الأعلى للحسابات، لدى صدور تقرير 2018، الذي خصّص 400 صفحة لفضح اختلالات السياسة الفلاحية، إذ وصل الأمر بعزيز أخنوش إلى تهديد وشتم إدريس جطو! وهو نفس المنحى الذي يفسّر اليوم المواقف “الصفيقة” لباطرون الحكومة من مؤسسات الحكامة، وهي مؤسسات يتعامل معها أخنوش وفريقه التابع وكأنها ليس مؤسسات دستورية، وإنما مجرد “مصالح حكومية” لا يحق لها أن تبدي رأيا خارج “التهليل” لسياساته الفاشلة، وإلا تتعرض لشتى أصناف الحملات و”الهجمات والضربات” مثلما أقرّت بذلك الوزيرة شرفات!!!
كل هذا، يتطلّب معه وبصفة ملحة وعاجلة، عملية تقييم ومحاسبة، طبقا للمعايير الدولية المعمول بها، لحصيلة “مخطط المغرب الأخضر”، خصوصا بعدما اعتمد المغرب مخططا “جديدا” ليس إلا استمرارية للمخطط القديم، تحت اسم “الجيل الأخضر”، الذي يغطي فترة عشر سنوات من 2020 إلى سنة 2030، حتى لا يكون المغاربة، مرّة أخرى، ضحايا “زيد الشحمة فظهر المعلوف”، بتعبئة أغلفة مالية ضخمة لصالح كبار الفلاحين المستفيدين من سياسة فلاحة التصدير مقابل “طحن” أوسع الفئات الشعبية!