بقلم: بلال التليدي
الذين يتابعون ديناميات حزب التجمع الوطني للأحرار، ربما يشعرون أن الآليات لم تتغير، وأن السلطة تقوم بالوظيفة نفسهاعندما نزلت بثقلها لدعم (الأصالة والمعاصرة) عشية انتخابات السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
لكن ليس مؤكدا تماما أن السلطة تثق بقدرة الأحرار على لعب الدور، فهي تدرك أن هذه الورقة محدودة، وسبق لها أن واجهت تحديات كبيرة، لحظة إعلان المقاطعة الاقتصادية لبعض المنتوجات (منها شركة المحروقات إفريقيا التي يملكها الأمين العام للأحرار)، وتراقب عن كثب الأخطاء الجسيمة التي يرتكبها في السياسة والتواصل.
تجربة ماكرون فرنسا يمكن أن تعاد في المغرب، فالأفكار الفرنسية غالبا ما تأخذ طريقها إلى المغرب، وليس هناك ما يبرر الاستعجال في عمل لجنة النموذج التنموي (ستة أشهر فقط)، سوى هذا التوقع
ومع أنها لا تظهر أي مؤشرات للتخلي عن الأحرار، إلا أن عدم يقينها في هذا الحزب، وتواتر مؤشرات التذمرالشعبي منه، تؤكد عدم وضع السلطة لبيضها في سلته، فإذا انضاف إلى ذلك حجم التشظي الذي يعرفه حزب السلطة (الأصالة والمعاصرة)، بعد أن دخل تياراه في صراع علني على المصالح التي نشأت بفعل القرب من السلطة وفي هوامشها. إذا انضاف عدم اليقين في الأحرار، إلى ضعف الأمل في الأصالة والمعاصرة، ظهرت الحاجة إلى رصد المؤشرات الأخرى، لمعرفة أي رهانات تحرك السلطة في الترتيب لاستحقاقات 2021؟
قبل ذلك، لنتأمل سياق بلورة السلطة لحزبها (الأصالة والمعاصرة). وأي مدى زمني تطلبه هذا الإعداد؟ وهل كان مبرر إعادة تجربة حزب السلطة هو انتخابات 2002، أم أحداث 16 مايو/ايار 2003؟
لا أحد من الدارسين انتبه عند تأسيس حزب السلطة (الأصالة والمعاصرة) في 2008، إلى بناء خطابه وجزء أساسي من مضمونه السياسي من وثيقة مرجعية تسمى (المغرب الممكن : تقرير الخمسينية) الذي تم إعدادها سنة 2006 استجابة لتعليمات ملكية في خطاب (20 أغسطس/ اب 2003) بتقييم مسار التنمية البشرية، وبلورة رؤية للتنمية في أفق 2025.
مهم دراسة العلاقة بين إطلاق هذا المشروع وبين ترتيبات إعداد السلطة لحزبها، لكن ما يسترعي الانتباه أكثر، هو التشابه الكبير في سياق ما بعد انتخابات 2002، وما بعد تعيين حكومة العثماني سنة 2017، على الأقل من زاوية تقييم السلطة.
بعد انتخابات 2002، برزت عند الدينامية التفاوضية لتشكيل الحكومة، ثنائية سياسية تأسست على التقاطب الإيديولوجي، بين مكون محافظ إسلامي، وبين مكون آخر حداثي، وظهرت معالم قوة حزب الإسلاميين الناشئ (العدالة والتنمية)، وتراجع أحزاب الإدارة القريبة من السلطة. أي أن السلطة وجدت نفسها تقريبا بدون خيارات، فاضطرت للإبقاء على الوضع السابق بقيادة حكومية غير حزبية (إدريس جطو)، مع إحساسها بأن القوى الديمقراطية أضحت تمثل ضيفا ثقيلا عليها ، ومنعها لسيناريو مشاركة العدالة والتنمية في الحكومة مع أن عبد الإله ابن كيران كان، خلافا لحزبه، يشدد على المشاركة. ورغم القوة التي ظهر بها الإسلاميون، لاسيما بعد نجاحهم في إدارة المعركة السياسية حول الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، إلا أن توظيف أحداث 16 مايو/أيار الإرهابية، ساعد السلطة في وضع دوائر لضبط تحرك هذا الحزب .
بعد تعيين حكومة العثماني، نجحت السلطة في تصدير أزمتها للعدالة والتنمية، وحولت جزءا كبيرا من تذمر الشعب إليه، لكنها في المقابل، فقدت كثيرا من الخيارات، بعد أن ترسخ واقع غياب المنافس، بتفجر صراع جناحي الأصالة والمعاصرة، وظهور مؤشرات عدم صلاحية ورقة الأحرار للجواب على تحديات 2021.
انشغلت السلطة بشكل كبير بمعالجة تداعيات ما بعد البلوكاج الذي تعرض إليه رئيس الحكومة المعين عبد الإله ابن كيران عقب انتخابات 2016، والذي انتهى بإعفائه من مهامه، فقد شهد المغرب حراك الريف، وتبعه عدد من حراكات الهوامش ، فاتجه الاهتمام للقضايا الاجتماعية لامتصاص الحركات الاحتجاجية، فخرجت المشاريع الاجتماعية بجملتها في زمن قياسي، بعد أن كانت أطراف قريبة من الدولة تمانع خروجها خوفا من الكسب الانتخابي للعدالة والتنمية.
مع اقتراب استحقاق 2021، هدأت نسبيا وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية، لكن في المقابل، برزت مؤشرات مخيفة تتعلق بتعبيرات سياسية من خارج الأنساق التقليدية تستهدف المؤسسات، وتزكي فكرة انهيار أنظمة الوساطة ومخاطر وضع الملك في دائرة الاستهداف المباشر.
هل هي مصادفة أن تتشابه السياقات، ويتشابه نوع المقاربة: تقرير الخمسينية، ولجنة النموذج التنموي في معالجة أعطاب التنمية.
نعتمد أربعة مؤشرات أساسية لبناء هذا التوقع:
أولها، أن شكل تعديل حكومة العثماني، يرمز لتضخم التكنوقراطي على حساب السياسي. ثانيها، تبلور خطاب للدولة يركز على الكفاءات، سواء تعلق الأمر بالعملية السياسية (تشكيل الحكومة) أو بإدارة السياسات العمومية. ثالثها، أن تشكيلة لجنة النموذج التنموي تقترب في مواصفاتها من لجنة تقرير الخمسينية، من جهة هيمنة اتجاه واحد(المكون الفرنكفوني)، وإقصاء الفاعل السياسي، مع تنوع الكفاءات وتمثيلها لأكثر من حقل اقتصادي ومالي وفكري وثقافي وفني.
رابعها، أن وجود الضيف الثقيل، حصل في السياقين، ففي الأول، كان المراد إنهاء تجربة الكتلة، ولو بشكل متدرج، وفي الثاني، يبدو أن الرسالة هو عدم الحاجة إلى العدالة والتنمية.
لكن ثمة إشكالين، الأول، أنه عند إزاحة الضيف الثقيل الأول، لم يكن في الساحة السياسية فراغ، وكان في المقابل خوف من ملأ الإسلاميين للمكان، فكانت حكومة الكتلة بزعامة تكنوقراطية (إدريس جطو) بمثابة اختبار لقدرة القوى الديمقراطية أن تعزف على وتر السلطة لمحاصرة الإسلاميين، وهو ما لم تسايره القوى الديمقراطية، لأنها كانت تشعر أنها لا يمكن أن تتحول لأداة ضد الإسلاميين، وثمة من يعمل من داخل السلطة على إضعافها هي الأخرى والإعداد لبديل لها، في حين ليس بعد إزاحة الضيف الثقيل الثاني سوى الفراغ القاتل، أما الإشكال الثاني، فيرتبط بالمدى الزمني لمشروع حزب السلطة الجديد، وهل سيكون مع استحقاق 2021، أم سيتم الإبقاء على حكومة العدالة والتنمية بحد أدنى من التمثيلية السياسية ريثما تنضج الشروط لذلك.
تقديري أن تجربة ماكرون فرنسا يمكن أن تعاد في المغرب، فالأفكار الفرنسية غالبا ما تأخذ طريقها إلى المغرب، وليس هناك ما يبرر الاستعجال في عمل لجنة النموذج التنموي (ستة أشهر فقط)، سوى هذا التوقع، فتقرير الخمسينية أخذ ثلاث سنوات وهو يهتم فقط بتقييم تجربة التنمية البشرية ويستشرف مستقبلها في أفق 2025 !! وقد خرج حزب السلطة (الأصالة والمعاصرة) سنة بعد هذا التقرير.
٭ كاتب وباحث مغربي