الصحافة _ بقلم: الدكتور حسن العاصي
أكاديمي وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك
في زمن تتقاطع فيه المصالح وتتشابك فيه التحالفات، تظل القضية الفلسطينية في وجدان المغاربة قضية لا تقبل المساومة، ولا تخضع لتقلبات السياسة الدولية. فمنذ عقود، والمغرب، ملكاً، وقيادة، وشعباً، يضع فلسطين في قلب أولوياته، ويجعل من الدفاع عن حقوق شعبها موقفاً ثابتاً لا يتغير. هذا الالتزام التاريخي لا ينبع فقط من الانتماء العربي والإسلامي، بل من قناعة راسخة بأن فلسطين قضية عدالة، وكرامة، وحق لا يسقط بالتقادم. وبين المواقف الرسمية والمبادرات الشعبية، تتجلى صورة المغرب كواحد من أبرز المدافعين عن فلسطين، في مشهد يعكس عمق العلاقة التي تربط بين الشعبين، وتؤكد أن الجغرافيا لا تحدّ من التضامن، وأن التاريخ لا ينسى من وقف إلى جانب المظلومين.
يبرز المغرب في قلب العالم العربي، كواحد من أكثر الدول التي حملت القضية الفلسطينية في وجدانها الشعبي والرسمي، وجعلت منها قضية وطنية بامتياز. لم تكن فلسطين بالنسبة للمغاربة مجرد أرض محتلة أو شعب يعاني، بل كانت وما تزال رمزاً للكرامة والعدالة، وقضية تتجاوز الجغرافيا لتلامس عمق الهوية والانتماء.
في زمن تتغير فيه التحالفات وتتشابك فيه المصالح، يظل المغرب وفياً لقضية فلسطين، حريصاً على دعمها سياسياً وشعبياً، ومتمسكاً بمكانتها في وجدان الأمة. ليست فلسطين بالنسبة للمغاربة مجرد قضية عربية أو إسلامية فقط، بل هي قضية إنسانية وأخلاقية أيضاً، تتجذر في التاريخ، وتنبض في ضمير الشعب، وتُترجم في مواقف الدولة.
الحضور التاريخي للمغرب في القضية الفلسطينية
منذ نكبة عام 1948، كان المغرب حاضراً في كل المحطات المفصلية للقضية الفلسطينية، سواء عبر المواقف السياسية أو الدعم الشعبي أو المبادرات الدبلوماسية. وعلى الرغم من أن المغرب نال استقلاله عام 1956، إلا أن القضية الفلسطينية كانت حاضرة في وجدان الحركة الوطنية المغربية، التي رأت في تحرير فلسطين امتداداً لمعركة التحرر العربي من الاستعمار برز المغرب كفاعل دبلوماسي مهم في دعم القضية الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي، حيث احتضن مؤتمرات عربية وإسلامية، وكان له دور محوري في تقريب وجهات النظر بين الفصائل الفلسطينية والدول العربية.
كما ترأس الملك الراحل الحسن الثاني طيّب الله ثراه لجنة القدس التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي في عام 1975، وهو الدور الذي واصل فيه الملك محمد السادس، مؤكداً التزام المغرب الثابت تجاه القدس الشريف والقضية الفلسطينية. وداعماً لمؤسساتها التعليمية والصحية والثقافية، رغم القيود التي تفرضها سلطات الاحتلال.
حب الشعب المغربي الاستثنائي لفلسطين
إذا كانت المواقف الرسمية تعكس التزام الدولة، فإن حب الشعب المغربي لفلسطين يتجاوز ذلك ليصبح حالة وجدانية جماعية. في كل مناسبة، وفي كل مظاهرة، وفي كل نداء، تجد المغاربة في الصفوف الأولى، يهتفون لفلسطين، يرفعون أعلامها، ويجمعون التبرعات لدعم أهلها.
هذا الحب ليس وليد اللحظة، بل هو متجذر في الثقافة المغربية، في الأغاني، في الشعر، في الخطاب الديني، وحتى في المناهج التعليمية. لا يكاد يمر حدث فلسطيني دون أن يتحول إلى قضية رأي عام في المغرب، حيث تتفاعل معه الصحافة، والنشطاء، والمواطنون من مختلف الأطياف.
وقد شهدت المدن المغربية، من الرباط إلى الدار البيضاء، ومن فاس إلى أكادير، مظاهرات مليونية تضامناً مع غزة، ورفضاً للانتهاكات الإسرائيلية، في مشهد يعكس مدى ارتباط المغاربة بفلسطين، ليس فقط كقضية سياسية، بل كقضية إنسانية وأخلاقية.
فمن المسيرات المليونية التي شهدتها مدن الرباط والدار البيضاء وفاس وطنجة، إلى الحملات التضامنية التي تنظمها الجمعيات المدنية، ومن التبرعات التي تُجمع لدعم غزة والقدس، إلى المبادرات الثقافية والفنية التي تُخلد فلسطين، يثبت الشعب المغربي أنه من أكثر الشعوب العربية مناصرة لفلسطين، وأكثرها وفاءً لقضيتها.
المغرب والتحديات السياسية الدولية
شهد العالم العربي خلال السنوات الأخيرة تحولات سياسية عميقة، دفعت بعض الدول إلى إعادة ترتيب علاقاتها الخارجية وفقًا لمصالحها الاستراتيجية. ورغم هذه المتغيرات، ظل المغرب يؤكد أن موقفه من القضية الفلسطينية لم يتغير، وأنه يعتبرها قضية مركزية، لا تقل أهمية عن قضية الصحراء المغربية. وهذا موقف رسمي للمغرب ثابت رغم المتغيرات، حيث واجه المغرب في السنوات الأخيرة، تحديات سياسية ودبلوماسية فرضتها المتغيرات الدولية والإقليمية، من بينها إعادة ترتيب العلاقات الخارجية في ظل تحولات جيوسياسية معقدة.
ورغم هذه التطورات، ظل المغرب يؤكد في كل مناسبة أن موقفه من القضية الفلسطينية ثابت لا يتغير، وأن أي خطوات سياسية لا تعني تخلياً عن حقوق الشعب الفلسطيني. وقد شدد جلالة الملك محمد السادس، في أكثر من خطاب رسمي، على أن المغرب يضع القضية الفلسطينية في مرتبة قضية الصحراء المغربية، وهو تعبير واضح عن الأهمية القصوى التي يوليها المغرب لفلسطين، رغم كل الضغوط والتحديات. وهو تصريح يحمل دلالات عميقة، ويعكس التزاماً سياسياً وأخلاقياً لا يتزعزع.
كما أن المغرب، في كل المحافل الدولية، يحرص على التأكيد على حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ويدعو إلى حل عادل وشامل يضمن الأمن والاستقرار للجميع.
القدس في قلب المغاربة: تعلق يتجاوز السياسة إلى الروح
القدس، بما تحمله من رمزية دينية وتاريخية، تحتل مكانة خاصة واستثنائية في وجدان المغاربة، الذين يرون فيها أكثر من مجرد مدينة محتلة، بل بوابة السماء، ومسرى النبي محمد ﷺ، وعنواناً للكرامة الإسلامية. هذا التعلق ليس وليد اللحظة، بل هو متجذر في الوعي الجماعي المغربي، ويتجلى في كل مظاهر الحياة الدينية والثقافية، من المساجد إلى المدارس، ومن الشعر إلى الخطاب السياسي.
فالمغرب لا يدعم فلسطين فقط من منطلق سياسي أو دبلوماسي، بل من منطلق ديني وثقافي عميق. وترؤس الملك محمد السادس للجنة القدس التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي ليس مجرد تكليف بروتوكولي، بل تعبير عن التزام تاريخي متواصل، تُرجم عملياً من خلال وكالة بيت مال القدس الشريف، التي تمول مشاريع تعليمية وصحية وثقافية في المدينة المقدسة، وتدعم صمود أهلها في وجه التهويد والاستيطان، رغم القيود التي تفرضها سلطات الاحتلال.
ويُنظر في المغرب إلى الدفاع عن القدس باعتباره واجباً دينياً وأخلاقياً، حيث تتردد في خطب الجمعة، وفي الدروس الدينية، دعوات لنصرة القدس، والدعاء لأهلها، في مشهد يعكس تلاحماً روحياً بين المغرب وفلسطين. بل إن كثيرًا من العلماء والدعاة المغاربة يعتبرون أن نصرة القدس جزء من العقيدة، وأن الوقوف إلى جانبها هو امتداد لمعاني الجهاد والنصرة في سبيل الحق.
في الثقافة الشعبية، تحضر القدس في الأغاني الوطنية، وفي القصائد التي يرددها المغاربة في المناسبات، وفي أسماء المحلات والمقاهي وحتى المواليد، حيث لا يُستغرب أن تجد طفلاً مغربياً يحمل اسم “قدس” أو “فلسطين”، تعبيراً عن حبٍ متوارث لا يعرف حدوداً. كما أن الإعلام المغربي، الرسمي والمستقل، يخصص تغطيات واسعة للأحداث في القدس، ويُبرز معاناة أهلها، ويُدين الانتهاكات التي يتعرض لها المسجد الأقصى، في خطاب إعلامي يعكس نبض الشارع المغربي.
وقد شهدت المدن المغربية، من الرباط إلى تطوان، وقفات شعبية حاشدة تضامناً مع القدس، خاصة في أوقات التصعيد، حيث يخرج المواطنون من مختلف الأعمار والاتجاهات، حاملين الأعلام الفلسطينية، ومرددين شعارات تنادي بتحرير القدس، وتؤكد أن “القدس خط أحمر”، في مشهد يُظهر أن هذه المدينة المقدسة ليست بعيدة عنهم، بل تسكنهم كما يسكنونها.
إن تعلق المغاربة بالقدس لا يمكن اختزاله في موقف سياسي أو ديني فقط، بل هو حالة وجدانية جماعية، تتجدد مع كل جيل، وتُغرس في النفوس منذ الطفولة، وتُترجم في كل موقف تضامني، وفي كل دعاء، وفي كل قصيدة، وفي كل خطوة نحو نصرة الحق الفلسطيني. فالقدس، بالنسبة للمغاربة، ليست مجرد مدينة، بل رمزٌ للهوية، ومرآة للضمير، وراية لا تُطوى.
الشعب المغربي: صوت فلسطين في العالم العربي
من بين الشعوب العربية، يبرز الشعب المغربي كأحد أكثر الشعوب مناصرة لفلسطين، ليس فقط في التظاهرات، بل في المبادرات المدنية، وفي الحملات التضامنية، وفي الفضاءات الثقافية والإعلامية. هذا الدعم الشعبي لا يُختزل في لحظات الغضب أو التصعيد، بل هو موقف ثابت ومتجذر، يعكس وعيًا جماعيًا بأن القضية الفلسطينية ليست قضية خارجية، بل قضية وطنية وإنسانية بامتياز.
ففي كل مناسبة تتعلق بفلسطين، تخرج المدن المغربية عن بكرة أبيها في مظاهرات سلمية حاشدة، تُرفع فيها الأعلام الفلسطينية جنبًا إلى جنب مع الرايات المغربية، وتُردد فيها شعارات تنادي بالحرية والعدالة، وتُدين الاحتلال والتهويد. هذه التظاهرات لا تقتصر على العاصمة أو المدن الكبرى، بل تمتد إلى القرى والبلدات، في مشهد يُظهر أن فلسطين تسكن وجدان المغاربة جميعًا، من الشمال إلى الجنوب.
لكن الدعم المغربي يتجاوز الشارع إلى الفعل المدني المنظم. فقد ساهم النشطاء المغاربة في إيصال صوت فلسطين إلى المحافل الدولية، من خلال مشاركاتهم في المؤتمرات، والمنتديات، وحتى في الفضاء الرقمي، حيث يُعدّ المحتوى المغربي من بين الأكثر تفاعلاً مع القضية الفلسطينية على منصات التواصل الاجتماعي. وقد برزت أسماء مغربية في مجال الإعلام الرقمي، تُدافع عن فلسطين بلغات متعددة، وتُفنّد الروايات المغلوطة، وتُسلّط الضوء على معاناة الفلسطينيين، في مواجهة آلة التضليل الإعلامي.
كما أن المجتمع المدني المغربي، من جمعيات خيرية إلى منظمات حقوقية، يلعب دوراً محورياً في دعم الفلسطينيين، سواء عبر إرسال مساعدات إنسانية، أو تنظيم حملات توعية، أو الضغط على المؤسسات الدولية لاتخاذ مواقف عادلة تجاه القضية. وتُعدّ الحملات التضامنية التي تُنظمها هذه الجمعيات نموذجاً في التنسيق والفعالية، حيث تشمل جمع التبرعات، تنظيم ندوات، إنتاج أفلام وثائقية، وإطلاق مبادرات تعليمية وثقافية تُعرّف بالقضية الفلسطينية في المدارس والجامعات.
وقد شهد المغرب مبادرات رمزية قوية، مثل إطلاق أسماء “فلسطين” و”القدس” على شوارع ومدارس ومؤسسات، وتخصيص أيام وطنية للتضامن، وتنظيم معارض فنية وأدبية تُخلّد نضال الشعب الفلسطيني، وتُبرز تلاحم الشعبين المغربي والفلسطيني. كما أن العديد من الفنانين والمثقفين المغاربة جعلوا من القضية الفلسطينية محوراً لإبداعهم، فكتبوا عنها، وغنّوا لها، ورسموا لوحات تُجسّد صمود أهلها، في تعبير صادق عن التزامهم الإنساني والأخلاقي.
إن الشعب المغربي، بكل فئاته وشرائحه، يُجسّد نموذجاً حياً للتضامن الشعبي مع فلسطين، ويُثبت أن الدعم لا يحتاج إلى حدود جغرافية، بل إلى ضمير حي، وإرادة صادقة، وإيمان بأن الحرية لا تتجزأ، وأن العدالة لا تُؤجل.
من الرباط إلى القدس: سردية الوفاء
إن العلاقة بين المغرب وفلسطين ليست علاقة عابرة، ولا تخضع لحسابات سياسية ضيقة، بل هي علاقة تاريخية، وجدانية، وروحية، تتجدد مع كل جيل، وتترسخ مع كل حدث. فالمغرب، شعباً وقيادة، يظل من أبرز المدافعين عن الحق الفلسطيني، ومن أكثر الأصوات صدقاً في مناصرة المظلومين. والعلاقة بين الشعبين امتداد لتاريخ من الوفاء، والتضامن، والمبادئ التي لا تتغير مهما تغيرت الظروف.
ورغم كل المتغيرات الدولية، وكل الضغوط السياسية، فإن المغرب لم يتخلَّ يوماً عن فلسطين، ولم يتردد في إعلان دعمه لها، في موقف يعكس أصالة هذا البلد، وعمق انتمائه العربي والإسلامي. في موقف يعكس أصالة هذا البلد، وعمق انتمائه العربي والإسلامي، ووفاءه لقيم العدالة والحرية.
وبين دعم رسمي متواصل، وحب شعبي استثنائي، يثبت المغرب أنه منارة في الدفاع عن القضايا العادلة، وأن فلسطين ستظل في قلبه، مهما اشتدت العواصف، ومهما تعقدت الحسابات. وفي زمن تتراجع فيه بعض الأصوات، يظل صوت المغرب عالياً، صادقاً، ومؤمناً بأن الحق الفلسطيني لا يُنسى، وأن القدس ستبقى عنوانًا للكرامة، في وجدان كل مغربي حر.