الصحافة _ كندا
لم يكن خطاب العرش في ذكراه السادسة والعشرين مجرّد لحظة احتفالية بروتوكولية تُسجَّل في سجلّ المواعيد الدستورية، بل جاء كوثيقة توجيهية سامية، تجسّد عمق التحول الذي تعرفه المملكة تحت القيادة المتبصرة للملك محمد السادس، وتُعيد التأكيد على أن المغرب، وهو يراكم المنجزات، لا يغفل عن جوهر المشروع الوطني: الإنسان في صلب التنمية، والكرامة أساس التقدُّم.
لقد قدّم الخطاب الملكي تشخيصًا عقلانيًّا شجاعًا لحصيلة عقدين من الإصلاحات البنيوية، وطرحًا صريحًا لرهانات اللحظة الوطنية، مستعرضًا ما تحقق على صعيد تنويع الاقتصاد، وتعزيز الشراكات، وترسيخ السيادة الطاقية والغذائية، دون أن يقع في فخّ التباهي بالأرقام الجافة. بل على العكس، فقد كان الحُكم على جدوى هذه المنجزات متوقفًا على أثرها الملموس في حياة المواطن المغربي، وعلى مدى مساهمتها في ردّ الاعتبار للعدالة الاجتماعية والمجالية.
وفي معرض الحديث عن التفاوتات القائمة، كان الموقف الملكي واضحًا وحازمًا: “لا مكان اليوم ولا غدًا لمغرب يسير بسرعتين”. عبارة تختزل فلسفة جديدة للتنمية، تُبنى على إدماج كافة الفئات والمجالات، وتكافؤ الفرص، وتوزيع عادل لعائدات التقدّم. إنها دعوة لإعادة هيكلة النموذج التنموي ليُصبح أكثر إنصافًا، وأشدّ التصاقًا بحاجيات الناس، وأقرب إلى نبض جهاتهم وتطلعاتهم.
وفي هذا السياق، جاءت الدعوة الملكية لإطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية، قائمة على استثمار الخصوصيات المجالية، وتكريس مبدأ الجهوية المتقدمة، وتوحيد الجهود حول أولويات واضحة ومشاريع ذات أثر فعلي. لم يعد التخطيط التنموي مجرد هندسة مركزية فوقية، بل تحول إلى ممارسة تشاركية تُبنى على نتائج الإحصاء السكاني، وعلى تحليل علمي للمعطيات الديمغرافية والاقتصادية، في انسجام تام مع رؤية تنموية مستدامة تُنصت للواقع ولا تفرض عليه حلولًا نمطية.
سياسياً، عبّر جلالة الملك عن التزام مؤسساتي راسخ بتعزيز المسار الديمقراطي، من خلال دعوة الحكومة إلى تنظيم انتخابات تشريعية نزيهة قبل نهاية السنة، وإعداد إطار قانوني واضح، يؤسّس لثقة متجددة بين المواطن والعملية السياسية، ويكرّس مكانة البرلمان كفضاء أصيل لتجسيد إرادة الأمة.
أما على مستوى السياسة الخارجية، فقد حافظ الخطاب على رزانته وعمقه، من خلال التأكيد على أولوية الجوار، وتجديد اليد الممدودة إلى الجزائر، إيماناً بأن المصير المشترك لا يُلغيه خلاف سياسي عابر. وفي ما يخص قضية الصحراء المغربية، جاء التأكيد واضحًا على أن مبادرة الحكم الذاتي تظل الخيار الجاد والواقعي الوحيد، في ظل ما تشهده الساحة الدولية من دعم متنامٍ واعترافات متتالية بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، في مقابل تراجع خطاب الانفصال وعزلته المتفاقمة.
لم يكن خطاب العرش هذا العام استعراضًا لتقارير رسمية، بل كان إعلانًا أخلاقيًا وسياسيًا عن مرحلة جديدة، تؤمن بأن التنمية ليست رفاهًا رقميًا بل مسؤولية تجاه المواطنين، وبأن الوطن لا يُبنى على التفاوت، بل على التوازن بين الطموح الاقتصادي والإنصاف الاجتماعي. خطابٌ يُحرّك الهمم، ويستنهض العزائم، ويرسم الأفق لوطنٍ عادلٍ، راقٍ، ومتماسك، لا يخشى التحديات، بل يصنع منها سلّمًا نحو الريادة.
لقد أعاد الخطاب رسم معالم المشروع الوطني، وأكد أن جوهر السيادة هو في تمكين الإنسان المغربي من العيش بكرامة، في قريته كما في مدينته، في الهامش كما في المركز. وبهذا، فإن جلالة الملك، كعادته، لم يكتف بتوجيه البوصلة، بل منح للأمة مرآة صافية، ترى فيها ما تحقق، وما ينبغي أن يُستدرك، وما يجب أن يُصان.
في هذا الخطاب، لم يتكلم الملك عن مغرب الحصيلة، بل عن مغرب المستقبل: مغرب لا تُرسم حدوده بالخرائط فقط، بل تُرسم بكرامة شعبه، بعدالة مؤسساته، وبقدرة أبنائه على الإيمان بوطن لا يترك أحدًا خلفه.