الصحافة _ كندا
في عالم يضطرب بالأزمات الجيوسياسية والتقلبات الاقتصادية المتسارعة، يكتسي “مؤشر الحرية الاقتصادية لسنة 2025″، الصادر عن مؤسسة “هيريتاج” الأمريكية، أهمية خاصة في قراءة التحولات الكبرى التي تعيد رسم ملامح الاقتصاد العالمي وتحديد موقع كل دولة داخل هذه الخارطة المعقدة. وبينما تتراجع اقتصادات كبرى تحت وطأة التضخم، وانكماش سلاسل التوريد، والاضطرابات السياسية، يبرز المغرب كحالة فريدة تستحق التأمل، بعدما سجل تحسناً ملحوظاً في مؤشر الحرية الاقتصادية، ليرتقي إلى فئة الاقتصادات “الحرة إلى حدّ ما” بحصوله على 60.3 نقطة مقابل 56.8 في السنة الماضية، ويحتل بذلك المرتبة 86 عالمياً من بين 184 دولة، والسابعة إقليمياً في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
هذا التقدم لا ينفصل عن الدينامية الإصلاحية التي أطلقتها المملكة في السنوات الأخيرة، والتي شملت تدابير لتحسين مناخ الاستثمار، وتبسيط المساطر الإدارية، وتحفيز ريادة الأعمال، وتوسيع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الوطني. وقد ساعد الحفاظ على استقرار المؤشرات النقدية، والتحكم في نسب التضخم، وضبط أسعار الصرف، على تعزيز مرونة الاقتصاد المغربي في مواجهة الصدمات، سواء الخارجية أو الداخلية. ومع ذلك، يحذر التقرير من أن هذا التحسن لا يزال هشاً، ما لم يُدعم بإصلاحات أعمق تمس الجهاز القضائي، وإدارة الوظيفة العمومية، وآليات الشفافية، ومكافحة الفساد الذي يظل أحد أكبر معوقات التنمية والإقلاع الاقتصادي.
ويكشف التقرير عن تفاوت في أداء المغرب ضمن مؤشرات سيادة القانون، إذ رغم التقدم المحرز في مجال حماية حقوق الملكية، فإن فعالية النظام القضائي لا تزال دون المتوسط العالمي، ومؤشر النزاهة الحكومية يعاني من ضعف مزمن يعكس استمرار ممارسات الرشوة والمحسوبية، وغياب رقابة مؤسساتية فعالة. هذه الاختلالات البنيوية تحد من القدرة على خلق بيئة اقتصادية تنافسية وتؤثر سلباً على جاذبية المغرب للاستثمارات الأجنبية، خصوصاً في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية، كالتكنولوجيا والصناعات التحويلية.
وعلى مستوى التوازنات المالية، يسلط التقرير الضوء على تحديات متراكمة، إذ يبلغ العبء الضريبي حوالي 19.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل نفقات عمومية ناهزت 32.7 في المائة في السنوات الثلاث الأخيرة، ما ساهم في رفع العجز المالي إلى -5.3 في المائة، وبلوغ الدين العمومي حدود 69.5 في المائة من الناتج المحلي. وهي أرقام تضع الحكومة أمام معادلة صعبة: الحفاظ على الاستقرار المالي دون التضحية بالإنفاق الاجتماعي والاستثماري في سياق يتسم بارتفاع كلفة المعيشة، وتزايد المطالب الاجتماعية، وضغوط التغير المناخي.
التقرير لا يغفل الإشارة إلى أن بيئة الأعمال في المغرب، وإن كانت مؤسساتية نسبياً، إلا أنها لا تزال تعاني من بطء في التنفيذ، وتعقيد في الإجراءات، وغياب الفعالية في تنزيل السياسات العمومية. فرغم الأداء الجيد في مؤشر حرية ممارسة الأعمال، لا يزال سوق الشغل مكبلاً بقوانين صارمة، وانخفاض في مرونة التشغيل، مما يضعف من قدرة الاقتصاد على خلق فرص شغل كافية، ويُبقي شريحة واسعة من القوى العاملة رهينة للقطاع غير المهيكل، مع ما يترتب عن ذلك من تدني في الإنتاجية الوطنية، وتراجع في معدلات التغطية الاجتماعية والتأمين الصحي، وتعميق للفوارق الطبقية.
وعلى صعيد الانفتاح التجاري، احتفظ المغرب بموقع متقدم نسبياً، مستفيداً من منظومة قانونية تضمن المساواة بين المستثمر المحلي والأجنبي، رغم أن معدل الرسوم الجمركية يظل مرتفعاً نسبياً عند 13.9 في المائة. وقد بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في سنة 2023 حوالي 2.1 مليار دولار، مستفيدة من استقرار القطاع المالي الوطني، وتنوع أدوات التمويل، والانفتاح على الرساميل الأجنبية، خصوصاً في ظل التحول الرقمي الذي تشهده المؤسسات البنكية والبورصة.
أما في ما يخص الأداء الاقتصادي الكلي، فقد سجل المغرب نمواً بنسبة 3.4 في المائة خلال سنة 2023، بمعدل نمو متوسط ناهز 4.4 في المائة خلال السنوات الثلاث الماضية، وهي نسب تُعد إيجابية في السياقين الإقليمي والدولي. إلا أن هذه الدينامية لا تعكس تحسناً موازياً على مستوى التشغيل، حيث ما زال معدل البطالة مستقراً عند 9.1 في المائة، ما يبرز محدودية السياسات العمومية في استيعاب الطلب المتزايد على مناصب الشغل، ويفرض ربطاً أوثق بين التكوين المهني ومتطلبات السوق. من جهة أخرى، يستمر معدل التضخم في مستويات مرتفعة نسبياً بلغت 6.1 في المائة، وهو ما أثر بشكل مباشر على القدرة الشرائية للطبقات الوسطى والهشة، ما يستدعي تدخلاً أقوى من الدولة لضبط الأسعار وتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية.
ووفقاً للخلاصات النهائية للتقرير، فإن المغرب يقف اليوم عند مفترق طرق حاسم. فبينما يمثل التقدم المحقق في المؤشر فرصة لبناء اقتصاد أكثر تحرراً وكفاءة، فإن الطريق نحو الإقلاع الحقيقي يمر عبر إصلاحات جذرية تمس جوهر السياسات العمومية، وتعزز الحكامة، وتعيد الاعتبار لدور المؤسسات، وتوسع قاعدة المشاركة في التنمية، وتحفز الاستثمارات الموجهة نحو الابتكار والاقتصاد الأخضر والرقمي. ففي زمن تتسارع فيه وتيرة التحولات العالمية، لا يكفي أن يحرز بلد نقاطاً جيدة في المؤشرات، بل عليه أن يحول هذه المؤشرات إلى واقع ملموس ينعكس على حياة المواطنين، ويعزز ثقة المستثمرين، ويجعل من التنمية أفقاً مشتركاً بين الدولة والمجتمع.