الصحافة _ وكالات
تحولت غزة إلى جزء لا يتجزأ من دولة إسرائيل، ليس لأن الجيش الإسرائيلي يحكمها أمنياً، ولا لأن المليوني مواطن فيها يحتاجون إلى مصادقة إسرائيل حتى يتنفسوا، إنها مركب مهم إذا لم يكن الأهم في الخطاب السياسي الإسرائيلي.
مثلما هو جهاز الصحة المنهار أو ميزانية الدولة التي فيها عجز، ومثلما هو العلاج الخاطئ لعيوب القطار أو تحطيم نظام القضاء، فإن غزة شعار انتخابي، ووعد لم ينفذ، وبرهان ملموس على فشل الحكومة في قيادة مواطنيها. وفي المقابل، هي بؤرة للتجنيد والتجند حول الزعيم القادر على كل شيء. في كل مرة تستيقظ غزة من أجل التذكير بوجودها، مثل قصة العجوز ابنة الـ 97 التي قضت ساعات كثيرة في غرفة الطوارئ أو مثل أبناء العمال الأجانب الذين يثيرون الشفقة في كل مرة تقوم فيها سلطة الهجرة والسكان بممارسة العنف ضدهم.
مثلهم أيضاً.. تحولت غزة إلى عادة مملة. مكرهة يجب التعايش معها لأن ليس هناك ما نفعله، بالضبط مثل سكان غلاف غزة الذين بدأوا بإزعاجنا. كم يمكننا أن نسمع عن المعجزة التي حدثت في روضة الأطفال وأوشك صاروخ على إصابتها، وعن الفزع الذي يقض مضاجع الأطفال في الكيبوتسات أو عن حفل زفاف ألغي بسبب “صافرات الإنذار”. أيها الأصدقاء، توقفوا عن العويل. إن عدداً أكبر من الأشخاص يقتلون في حوادث العمل، والكثير من النساء قتلن على خلفية شرف العائلة، والكثير من الأطفال والشيوخ ماتوا بسبب دهسهم بالدراجات البخارية أو الكهربائية، أكثر من كل صواريخ حماس.
لا تعدّ غزة تهديداً وجودياً أو ذرة إيرانية (التي هي غير موجودة بعد)، بل هي كيان سياسي إسرائيلي يستخدم من أجل تصنيف زعماء وسياسيين يريدون أن يكونوا قادة. من لا يعرف كيف يحل مشكلات المجتمع والاقتصاد في دولة إسرائيل، ومن لا توجد لديه خطة عمل لتنظيم المواصلات أو منع الجريمة في الوسط العربي، يمكنه دائماً التعهد بالنجاح في الحرب ضد غزة. عليه أن يحذر من أن لا ينجح أكثر من اللازم. افيغدور ليبرمان يمكنه إبلاغ الجميع عن الثمن السياسي الذي دفعه بسبب المثل الشعبي المجهول الذي صكه في الخطاب الإسرائيلي في العام 2016: “لو كنت وزيراً للدفاع لأمهلت السيد هنية 48 ساعة، وقلت له إما أن تعيد الجثث أو ستموت”.
بنيامين نتنياهو أيضاً لم يعفَ من ذلك. رؤساء اليمين اعتادوا ويعتادون على وصفه على أنه زعيم ضعيف لأنه لا يقوم بحل “بضربة واحدة وإلى الأبد” مشكلة غزة. إن مفهوم “حقائب الأموال”، المبالغ التي تحولها قطر لحماس، تحول في إسرائيل إلى رمز للضعف والهزيمة، الذي يخدم جيداً خصوم نتنياهو في اليمين وأمثالهم في المعارضة. جنرالات “أزرق أبيض”، ومنهم القائد العسكري يئير لبيد، يعدون بأنهم، فقط هم، الذين يمكنهم تغيير هذا الواقع المهدد. لم يقوموا بنقل الحقائب، فالحقائب للضعفاء. سنقصف من الجو وسنعود إلى التصفيات المركزة، هكذا تعهد بني غانتس في مؤتمر هرتسليا في تموز الماضي.
لم يبق أي سبب لتذكير غانتس أيضاً بأن قصفه الكبير في عملية الجرف الصامد تضمن تاريخاً لانتهاء الصلاحية. هذه الحقائب منعت المواجهةال شاملة ضد غزة، التي لم يكن أي شخص يمكنه التنبؤ بنتائجها. الحقائب هي الشيء الأفضل والأرخص الذي حدث للسياسة الإسرائيلية. فهي تمكن من الحفاظ على الهدوء النسبي لحماس، وفي الوقت نفسه تغذي دعاية الانتخابات للجميع.
ستواصل غزة كونها مأساة سياسية متخفية بصورة تهديد أمني؛ لأنها تخدم جميع الأطياف السياسية في إسرائيل. أي حل سياسي أو اقتصادي يمكنه خلق هدوء بعيد المدى يحتاج إلى ثمن سياسي يغيب عن دفعه أي زعيم. رفع الحصار؟ إنشاء ميناء في غزة؟ مطار؟ كم عدد من سيصوتون لمن يقترح هذا الهذيان؟ لقد اعتدنا على ضجة غزة. والهدوء قد يصم آذاننا.