الصٌَحافة _ وكالات
في إعلانات القوات المسلحة الفرنسية، تظهر وجوه شابة من أصول عربية إلى جانب أخرى من أصول أفريقية وآسيوية، بهدف إغراء أقرانهم للالتحاق بصفوفها، الأمر الذي يكشف عن رغبة رسمية متزايدة في الانفتاح على هؤلاء الفرنسيين المتحدّرين من “أقليات ظاهرة”.
ويتزايد عدد الشبان والشابات من أصول عربية الذين يلتحقون بالقوات المسلحة التي تشمل الجيش الفرنسي والقوات الجوية والقوات البحرية والدرك، إذ إنّ هؤلاء لم يعودوا يخضعون، كما في السابق، لإكراهات اجتماعية، وأحياناً دينية قاسية. فقد ولّى الزمن الذي كانت فيه العائلات تقاوم رغبات أبنائها، والذي كانت فيه أخرى تتهرّب من الحديث عن أبنائها المجنّدين في فرنسا، ليصير الانضمام إلى القوات المسلحة مهنة مثل أيّ مهنة أخرى.
عائلة الراوي من أصول مغربية تُعَدّ نموذجاً لذلك التحوّل في الذهنيات، فاثنان من أفرادها ضابطان في القوات المسلحة الفرنسية وقد شاركا في مهمّات ببلدان عربية. ويتحدّث الوالد سعيد الراوي بفخر عن ولدَيه الضابطَين: “كان مؤثّراً حضور أحد ابنَيّ في أفريقيا الوسطى، في خلال مهمّة لفرض السلام إلى جانب ضباط وجنود من المغرب”. ولا يجد الراوي حرجاً في الدفاع عن خيارهما، متسائلاً “أبنائي فرنسيون، فلماذا لا يشاركون مواطنيهم في هذه المهنة؟”.
ولا شكّ في أنّ الأعوام القليلة الماضية لم تكن سهلة على الجالية العربية في فرنسا ولا على الفرنسيين من أصول عربية، مع توجّه مئات إلى الشرق الأوسط للقتال مع تنظيمات متطرّفة وإرهابية، إلى جانب تنفيذ آخرين عمليات إرهابية في فرنسا ضد مواطنيهم، الأمر الذي دفع كثيرين إلى الانضمام إلى القوات المسلحة الفرنسية بهدف الإثبات أنّه من واجب الجميع، مسلمين وغير مسلمين، الدفاع عن فرنسا ومصالحها. وهو ما يؤكده جواد الرايس، من أصول تونسية، الذي لم يتردد لحظة واحدة في السماح لابنه بالالتحاق بالقوّات المسلحة الفرنسية. فيقول: “صورة مواطنين فرنسيين من أصول عربية يحاربون جيوش بلادهم في الشرق الأوسط لا تُحتمل. نحن فرنسيون ويجب علينا إثبات ولائنا لهذا البلد. من هنا أيّدت، بدون تردد، رغبة ابني الأصغر”.
الولاء للدولة الفرنسية ليس السبب الوحيد في هذا السياق، فثمّة آخرون التحقوا بالقوات المسلحة الفرنسية لأسباب اقتصادية، إذ إنّ الحوافز والمغريات المادية كثيرة. بالنسبة إلى الحاجة رحمة الأيوبي، فهي أقنعت ابنها بذلك، لأنّها خشيت عليه من السقوط في فخّ المخدّرات. وتؤكد: “هذا ما فعله، وأنا فخورة به. هو صار منضبطاً ويعيل إخوته”. ومن بين الملتحقين بالقوات المسلحة الفرنسية شباب ضاقوا ذرعاً بالتمييز في مختلف مجالات الشغل، فاتجهوا إلى صفوف تلك القوات المسلحة التي تعيد للمساواة معناها الحقيقي بالنسبة إليهم. ولعلّ هذا ما أشار إليه وزير الدفاع الفرنسي الأسبق هيرفي موران، في الثامن من يوليو/تموز من عام 2010، حين أكّد أنّ وزارة الدفاع هي “آخر مؤسسة تتيح الارتقاء الاجتماعي عبر الاستحقاق والاندماج من دون أفكار مسبقة ومن دون تمييز”.
من جهته، يتحدّث الباحث الفرنسي إليامين ستّول، الذي وضع دراسة حول “انخراط العسكريين المتحدّرين من الهجرة في القوات المسلحة الفرنسية”، عن “تطوّر اجتماعي يخترق صفوف تلك القوات”. ويعزو ستّول ارتفاع عدد المنخرطين من فرنسيين من أصول إسلامية وآخرين يتحدّرون من “أقليات ظاهرة” إلى قرار وقف التجنيد الإجباري الذي اتّخذه الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك في عام 1996، الأمر الذي خلق حاجة ماسّة إلى نساء وإلى أفراد من “الأقليات الظاهرة”.
ويقول ستّول إنّ “الأقليات الظاهرة” غير ممثلة إلاّ نادراً في رئاسة الأركان، غير أنّها تسجّل حضوراً بارزاً على مستوى الأفراد العسكريين بالإضافة إلى ضبّاط الصف، لافتاً إلى أنّ الجاذبية المتعاظمة للقوات المسلحة على أبناء الأحياء الشعبية، لا يعرفها الجمهور العريض. ووسائل الإعلام من جهتها لا تعير الأمر ما يستحقّه، وتفضّل الحديث عن شباب الضواحي من زاوية الاضطرابات وانعدام الأمن. ويشدد ستّول على أنّ “الأمر يستحق التنويه”، شارحاً أنّ شباب الضواحي، وكثيرون منهم يتحدّرون من أصول عربية وإسلامية، ما زالوا ضحايا منطق التمييز، بالتالي فإنّ كثيرين منهم يرون في المؤسسة العسكرية وسيلة لتأكيد انتمائهم إلى قيم المساواة والمواطنة، في حين يبحث آخرون عن مجال للاستقرار الاجتماعي والعاطفي.
تجدر الإشارة إلى أنّ عدد المسلمين المتزايد في القوات المسلحة الفرنسية دفع المؤسسة العسكرية ولو متأخرة إلى التعاطي مع الثغرات ومعالجتها عبر إقرارها المساواة بين الإسلام والديانات الأخرى في عام 2006، من خلال استحداث منصب مرشد ديني مسلم إلى جانب منصبَي المرشد الديني المسيحي والمرشد الديني اليهودي. ويلفت ستّول في سياق متصل إلى قضيّة جنديّ مسلم رفض في عام 2009 التوجّه إلى أفغانستان متذرّعاً بقناعات دينية، لكنّه يؤكد أنّها “حالة منعزلة لا يمكن أن تخفي الولاء الكامل لآلاف المسلمين المنخرطين في القوات المسلحة الفرنسية في كل أنحاء العالم”.