بقلم: محمد الحبيب طالب
كتب الكثير عما استبق الإعلام الغربي إلى تسميته “بالربيع العربي“. وتوزعت اهتمامات الكتابة عنه إلى شتى التخصصات والقراءات. وما دفعني لطرح هذا الموضوع، في قراءة سياسية آنية له، عاملان أساسيان:
من جهة، بِتُّ أرجح أن ما نشاهده من سيولة جماهيرية على المستوى الدولي، مع الاختلافات الحاصلة بينها، يمينا ويسارا، تشي بدخول العالم مرحلة قد نسميها ب “عصر الجماهير“. ومع أن التسمية قديمة وقيلت من قبْل في خضم تسميات عديدة أخرى، ومنذ أن تبوء الإعلام مكانة السلطة الرابعة، وظهر الرأي العام وتكونت أدواره؛ ومع أن الحركات الاحتجاجية والانتفاضات استمرت حاضرة الدور عبر التاريخ، إلا أن خاصيتها، أنها صارت أكثر سيولة وتواترا وبخصوصيات أخرى مغايرة لما قبلها، تلعب فيها الثورة التواصلية الحديثة أدوارا فائقة.
ولكنها في النهاية غير معزولة إطلاقا، عما يعرفه النظام الرأسمالي العالمي، المعولم، من أزمات وصراعات، تأخذ مظاهر متنوعة أخرى، كالحروب الاقتصادية، وأزمة الهويات الجامعة وتفككها إلى هويات فرعية، وتصاعد الاتجاهات اليمينية العنصرية، والتقوقع الديني والمذهبي والطائفي، وتفشي كوارث التلوث البيئي مع الإرهاب وتجارة السلاح والبشر، وأزمة النزوح والهجرات النامية التي تفضح ضيق علاقات الإنتاج الرأسمالية المعولمة القائمة… هذا عدا الإفقار المتزايد لأغلبية قاطنة العالم. والحقيقة، أن كل مظاهر الأزمة التي أشرت إلى بعضها هي فاضحة للعلاقات النيوليبرالية المهيمنة عالميا، حتى لو أرجعنا كلا منها إلى عوامل داخلية في أي مجتمع.
ولا محالة في أن هذا الوضع العالمي، بسيولته الجماهيرية المتواترة، سيستمر إلى أن يجد مخارجه، إما بسقوط النيوليبرالية في بعض مراكزها المهيمنة الأساسية، وإما بتطور واستقرار نظام عالمي متعدد الأقطاب وخاصة إن صاحبه فقدان الدولار مكانته في المبادلات العالمية، وإما بإيجاد أشكال أخرى للنظام السياسي يتخطى النظام الليبرالي التمثيلي القائم بما يدمج هذا “الفائض الجماهيري” الذي لم يعد يجد تمثيلا له ومعبرا عنه. والأصح القول، أن الدينامية التاريخية ستأخذ من هذه الـ“إما” ومن تلك في تطور غير متكافئ. ما أردته، ليس تحليل هذه الظاهرة الشعبية الفوارة عالميا، وإنما لفت الانتباه إلى أنها واقعة مثيرة، ينبغي التفكير في جميع مجاهلها والاستعداد لجعلها قوة للتقدم لا للفوضى كما يراد لها غالبا.
ومن جهة ثانية: كان الدافع الفوري لهذه المقالة، ما قرأته وتابعته من مقالات ومداخلات ومواقف حول ما يجري، في موجة ثانية، من حراك شعبي في لبنان والعراق والجزائر والسودان. وقد أدهشني أن جل الرؤى تقريبا ظل حبيسا لما يمكن أن نسميه ب “تقديس العفوية“، وهو اصطلاح قديم من بين التحذيرات الأيديولوجية والسياسية للتراث النضالي الاشتراكي تحديدا. وبكل التواضع المطلوب، ربما كنت من الأوائل ممن انتقد هذا التوجه في الموجة الأولى، عندما ساد الانبهار أغلب السياسيين والمثقفين من قوة هذا “الشعب يريد“، وبعدما كاد الأمل أن يخبو أمام طول عمر جبروث الاستبداد. وحينها، كان الانبهار الذي طغى في استنساخ عربي لميل قديم في تجارب سابقة من تقديس للعفوية، انبهارا مفهوما ومتوقعا لجدة التجربة وطراوتها، بعد ليل طويل وحزين، لكن أن يكرر التقدميون تحديدا نفس الرؤى التقديسية للعفوية، بعد أن أظهرت الموجة الأولى محدودية نجاحاتها، وفشلاتها الكارثية، فهذا يدعو إلى التفكير والنقد معا.
وليس بإمكاني في مقالة واحدة، أن أتعرض لهذا الحراك في كل تجربة منه ولخصائصها المحددة، ولذلك لا مناص من الاكتفاء بعنوانين فقط أراهما قواسم مشتركة في نقد ما أعتبره تقديسا للعفوية والذي يخدم بوعي أو بلا وعي مصالح الثورة المضادة.
-1-
* أولا: نظرية المؤامرة ومصالح الدول: بعد قراءتي لمقالة أخيرة، لكاتب لبناني تقدمي، لا حاجة لذكر إسمه لأنه عينة فقط لتفكير سائد، دهشت من تبخيسه المطلق لإمكان المؤامرة، وفي لبنان تحديدا، وبحجة أن هذا الاتهام جرت عليه العادة من قبل جميع الأنظمة الاستبدادية، فجاءت المقالة، وكأن لبنان يعيش هذه الأيام في حديقة ثورية رومانسية، تستثنيه من هذا العالم المتشابك والمتصارع المصالح. وهو يعرف جيدا أن لبنان تحديدا، تعرضت دولته منذ نشأتها، ولا زالت، لوصايات خارجية على جميع شؤونها السيادية وبلا استثناء. إن هذه الرؤية التي تزعم أنها تحارب “نظرية المؤامرة“، وتسعى إلى تنظيف عقولنا من جراثيمها، صارت منذ عقود على كل لسان من قبل المحللين والخبراء والمثقفين والسياسيين عامة، وكأن أيا منهم لا بد له في البدء من هذه “البسملة“، بأن يتبرأ من “نظرية المؤامرة” لكي يكون لحديثه مصداقية “علمية” كما يتصورون !
وما يدهشني في هذه الظاهرة، انقلابها الجذري، على تقليد ثقافي سابق، كان ينسب كل شيء إلى مؤامرة الأعداء الخارجيين تحت مسميات الأمبريالية وغير ذلك. وشبيه بهذا، أي بجانب ما يسمونه بنظرية المؤامرة، القول، بأن كل الدول تدافع عن مصالحها، وأن العلاقات الدولية تنبني على المصالح لا على المبادئ والأيديولوجيا، وهو انقلاب آخر، على تفكير تقليدي سابق. والموقفان فيهما حق أريد به باطل. فلا المؤامرة الخارجية ولى زمنها في هذه العولمة تحديدا، ولا مصالح الدول متساوية وحيادية إزاء المصالح الوطنية والقومية، بل وإزاء مصالح الإنسانية في التقدم والتحرر والمساواة.
ربما كانت هذه مسلمات لدى أي تفكير سليم. لكن السياسة بصراعاتها الاجتماعية الدائمة ليست على هذه البداهة المنطقية. ولقد كتبت مرة، أن هذه الظاهرة لدى “النخب السياسية الثقافية” العربية في انقلاباتها الأيديولوجية من النقيض إلى النقيض بدون جسور تواصل وكأنها أشبه “بالبداوة الفكرية” سيمتها الرئيسة الترحال الدائم بلا عمران !
أبدا، ليس للمؤامرة من نظرية. فهذه خرافة وفدلكة أيديولوجية. إلا من وجهة واحدة، إذا ما حسبنا جميع المخططات الاستراتيجية، العسكرية والاقتصادية والسياسية.. والتوجهات الأيديولوجية الخادمة لها، والوسائل المستعملة لإنجازها، الخفية والعلنية، التخريبية والناعمة، والمستهدفة في كليتها فرض الهيمنة والخضوع والاستتباع على شعب ودولة ما. وفي المقابل تكون الخطط المضادة لمقاومتها، وبشتى الوسائل أيضا، الوجه الآخر لهذه النظرية الافتراضية. إلا أن هذا التوسيع لمصطلح المؤامرة، في تفسير صراعات التاريخ والحاضر، يفقر أشد التفقير مضامينها، لأنه يحصرها في لعبة معينة توحي به المؤامرة من خداع وغدر وذكاء ورياء، وهذه ليست إلا جوانب ممكنة في قوانين تاريخية موضوعية أصلب وأعم وأشمل. فضيلة هذه النظرية المزعومة، والتي كثر الحديث المبتذل عنها في كل أزمة عندنا، أنها حرضت على الاهتمام بالعوامل المجتمعية الداخلية، بدل تعليقها جميعا على العامل الخارجي. وبهذا المعنى تحديدا يكون طرح المسألة مجتمعيا داخليا لتنمية جميع عناصر القوة فيه، ومن أجل مقاومة عوامل الهيمنة والخضوع والاستتباع، أي بالاستحضار الجدلي للعامل الخارجي لا بإلغائه.
إلغاء فكرة المؤامرة، بأي معنى نأخذها به، سفسطة ما بعدها سفسطة، ويكفي أن نستدل على ذلك بالدور المتعاظم الذي تضطلع به أجهزة المخابرات باعتبارها أحد الأركان الرئيسة في الدولة العميقة لكافة الدول المهيمنة، فما هي ضروراتها وما هي أدوارها اليوم؟ أليس القيام بالأعمال الخفية والوسخة منها والتي تحتاجها الاستراتيجيات الهيمنية؟! ربما يكفي التذكير بهذا الركن البنيوي في كافة الدول، وخاصة منها الاستعمارية والمهيمنة، بدل أن نخوض في جرد عشرات الوقائع من التاريخ العربي الحديث والتي تؤكد الحضور الدائم لأشكال التآمر الاستعمارية والأمبريالية إلى اليوم.
إسقاط فكرة المؤامرة، بما هي إمكان لاستغلال الحراك الشعبي العفوي لخدمة مآرب أخرى، يعني إسقاطا للبعد الجيوبوليتيكي للبلد، وإسقاطا للبعد الوطني التحرري. وهذا يقودنا إلى السؤال، أية وظيفة إذن يخدمها هذا الإسقاط بدعوى التحرر من “نظرية المؤامرة” ومعها بالتلازم أن لجميع الدول مصالح “متساوية وحيادية” تجاه الصراعات الوطنية والقومية التحررية !
إن من يدافعون عن هذه الرؤية المزدوجة السابقة، يستعملون في الواقع سلاحا أيديولوجيا مضللا، الغاية منه التغطية على التحالف مع قوى امبريالية ورجعية تحت شعارات براقة وعلى رأسها إنجاز المجتمع والدولة الديمقراطيين، ومع تغييب شبه مطلق للمعركة الوطنية التحررية. وما على القارئ أن يتمعن في كل ما يكتبونه ويذيعونه ليتأكد من أنهم، في تحاليلهم، يغضون النظر عن القوى التي برهنت عبر التاريخ على رجعيتها ومعاداتها للمصالح التحررية، وهي الماسكة بالاقتصاد والقواعد العسكرية والداعمة لإسرائيل، والجاثمة فعلا على لبنان والعراق والسودان وليبيا، ووراء الحرب على سوريا واليمن وغيرهما. ويتأكد من خلط الأوراق، وتلفيق الوقائع، لاصطناع أعداء غير الأعداء الحقيقيين، ولتصوير الصراع على غير وضعه التاريخي السوي !
-2-
ثانيا : تناقضات الحراك العفوي: في البدء، لا يمكن لأي تقدمي إلا أن يشعر بالفرح والأمل تجاه أي حراك شعبي يناضل من أجل مصالحه الحقه. لأن الجماهير في معتقده هي، في التحليل الأخير، صانعة التاريخ. ومن هذه الزاوية، يكون المعنى المحدد للجماهير، أنها، فضلا عن كتلتها العددية التمثيلية لإرادة شعب مَّا، هي أيضا، حاملة في مضامين حراكها لفكرة التقدم.. وإلا انحط الحراك إلى كم عددي لجمهور (لا الجماهير) يوظف في غير مصالحه وفي غير مسيرة التقدم.
ومن هذه الزاوية أيضا، تكون التجارب الثورية، ومسار التقدم بوجه عام، تحصيل حاصل تركيبي بين الوعي والعفوية، إذ لا تخلو أية تجربة من عنصر العفوية الشعبية. والعفوية نفسها تختلف وتتنوع مبادراتها بحسب الخبرة النضالية التي كسبتها الجماهير ومكوناتها في صراعاتها الاجتماعية. وكذلك الوعي الذي يتجسد أساساً في القيادة والتنظيم والذين يخوضان غمار التجربة، ويمثلان فاعلية الحراك الشعبي في مصالحه وأفقه البعيد.
ولقد جرت نقاشات عديدة في توصيف ما جرى في هذا الذي سمي ربيعا، هل هو مجرد حراك شعبي احتجاجي مطلبي، وهل هو انتفاضة، أم ثورة بكل مواصفات الثورة؟ ! وكان لي أن أدليت بدلوي لمرات في هذا النقاش، وما ألح عليه اليوم، أن الفرق بين الانتفاضة والثورة يتوقف على وجود قيادة وطنية تمثيلية أم لا، وبصرف النظر فيما إذا كانت هذه الثورة ستفوز أم ستتعثر وتفشل في بلوغ غاياتها. ولا تخلو أية ثورة من تناقضات خفية مع قوى مضادة، قد لا تظهر إلى جانب السلطة، ولكنها تكون متخفية إلى حين بجانب الثورة أيضا. ولا تخلو بالأحرى من التدخلات الخارجية المضادة في معظم الثورات.
إن جل القضايا المثارة أعلاه، تكاد تكون هي الأخرى من جملة “البديهيات“، لكنها بديهيات معقدة في التحليل العياني لتجربة محددة. والجدل كما هو معروف هو البحث في تناقضات الظاهرة والمتحكمة في مآلاتها وصيرورتها.
وهكذا، فمن أشكال تقديس العفوية، رفض القيام بالتحليل الملموس لواقع الحراك، لمكوناته وخياراته وأساليبه. ومن ثمَّ التنبؤ باحتمالاته الممكنة. فالحراك كأي ظاهرة اجتماعية، هو، وحدة تركيبية لمتناقضات ينبغي الوعي بها، بدل الاكتفاء بخطاب التمجيد والتعظيم، وبالتالي، السير خلف العفوية لا أمامها بالتوجيه والقيادة.
الإشكال الذي يجسد هذه المعضلة، في الموجة الثانية للحراك الشعبي العفوي، في لبنان والعراق والجزائر، كان ولا يزال إشكال غياب القيادة الوطنية البديلة والمعبرة عن الحراك والقادرة على تحمل أعباء شعاراته الجذرية بإسقاط النظام مثلا. ومن بين جميع تجارب الحراك في موجته الثانية والأولى، كان الاستثناء الوحيد الذي قدمته التجربة السودانية، بقيادتها المؤلفة من تحالف حزبي عريض ضم أغلب المعارضات الرئيسة بما فيها القوى التي رفعت السلاح في وجه النظام السابق. كما اضطلعت هيئة التنسيق المهنية بدور الدينامو القيادي في الميدان. وعلى الرغم من محاولات المجلس العسكري الذي انتزع السلطة لنفسه في أن يقزم هذا الدور القيادي المنظم وأن يعومه بخلق منافسين آخرين من بقايا النظام، إلا أن القيادة على تنوعها بقيت متماسكة إلى أن تمت التسوية، والتي كان لابد منها، وعلى برنامج يُعيد هيكلة النظام في ضوء أغلب ما طرحه التحالف القيادي في برنامجه المعلن. وجدير بالملاحظة هنا، أن الهيئة التحالفية رفضت مند البدء الشروع الفوري في انتخابات برلمانية لقيام السلطة الجديدة، وطرحت عوضا عن ذلك ضرورة المرور بمرحلة انتقالية لأربع سنوات (عُدلت قليلا) تحت سلطتها لإعادة هيكلة الدولة والاقتصاد وإنجاز السلام مع التنظيمات المسلحة. وهذه قضية في غاية الأهمية، لأن أقصر طريق لتضييع الحراك الشعبي المفتقر للقيادة، الدخول فورا في انتخابات تغتنمها دائما قوى النظام السابق التي تعيد صياغة نفسها بأشكال أخرى يغتنمها من كان أكثر تنظيما وليس الأكثر جذرية وتطابقا مع تطلعات الحراك. ولعل التجربة السودانية، رغم ما ينتظرها من معارك ضارية ومن يقظة فائقة، المثل الأكثر تقدما في جميع ما سمي بالربيع العربي.
أما إذا عدنا للتجارب السابقة في الموجة الأولى، فإننا سنلاحظ، ليس غياب القيادة في كل من سوريا وليبيا، لأنها تشكلت رسميا بعد فترة من الحراك العفوي، بل انحرافها، من جهة، عن سلمية الحراك إلى العمل المسلح، وفيه هو الآخر من انحرافات لا تحصى ولا تميزه عن المنظمات الإرهابية التي تزاوجت معها. ومن جهة ثانية، انصياعها الشديد التبعية لتحالفات إقليمية ودولية معادية للمصالح الوطنية. إنه لدرس بليغ (كانت التجربة العراقية وما لحق الدولة من دمار سابقة له) على مستويات عدة، من بينها، السلمية والعمل المسلح، والاستعاضة عن الضعف الداخلي في موازين القوى بالتحالفات الخارجية اللاوطنية، والارتباط العضوي بين الديمقراطية والتحرر الوطني في بلداننا، لا أولية للواحدة على الأخرى، ولا ترتيب ميكانيكي بينهما، بل الوطنية هي الأساس لتراكم عضوي سلمي للصراع الديمقراطي. ومن بينها، التقدير السليم لموازين القوى الداخلية، وطرح الشعارات على قدر قوى التقدم في المجتمع، لا بتوظيف كل القوى المحافظة والرجعية فيه، وبالتالي، الفهم الجيد لتناقضات مكونات المجتمع وللحراك العفوي.
وفي الحالة الراهنة لغياب القيادة في كل من لبنان والعراق، فإن تقديس العفوية يبدو لي في هذين المثالين صارخا. قد يكون الدافع لدى قوى التقدم الصادقين، غير أولئك الذين لهم حسابات سياسية ثأرية، أنهم، بلا وعي، يُنظِّرون للعفوية، بدعوتهم إلى ترك الحراك العفوي يأخذ مجراه الطبيعي، كقوة ضاغطة، فلا حاجة له لقيادة ولا لتفاوض مع السلطة! بينما هم في الحقيقة، يخشون على الحراك من بروز تناقضاته الداخلية، حالما تُطرح على جدول الأعمال مسألة القيادة التمثيلية وبرنامج التفاوض الدقيق. وهم بذلك يسعون إلى الحفاظ على الوحدة الظاهرة للحركة بأي ثمن كان، ولو بهدر الزمن السياسي وترك البلد يهوي إلى الانهيار الاقتصادي، ولا يعفيهم من نصيبهم في المسؤولية المشتركة لهذا المآل، أنهم يرمون بالمسؤولية كاملة على من تحمل مقاليد الحكم ولعقود. هشاشة هذا المنطق العفوي الذي يرفعونه إلى مستوى المبدأ، واضحة، لأنه يكرس في حقيقته الدوران في الحلقة المفرغة. فبما أنهم يعتقدون أن الضغط الشعبي المتواصل هو السبيل لإجبار التحالف الطائفي الحاكم القيام بالإصلاحات الضرورية ضد الفساد وإلغاء النظام الطائفي، فهذا يعني منطقيا أن هذه القوى المدموغة بالطائفية والفساد لها جميعا نفس القابلية للإصلاح أو الانتحار من ذاتها. وإذا كان الانتحار الجماعي يعني الفراغ والفوضى، لغياب بديل قائم، فقابليتها للإصلاح، وحتى وإن كان من قبل بعضها، إن لم يستوجب التفاوض، فعلى الأقل، يستوجب دعم هذا البعض والقبول بالممكن الذي يعد به ويقدر عليه. وهذا يفترض بدوره الوعي المسبق بالمساومات الممكنة التي تسمح بها المرحلة عوضا عن المطالب القصوى والفورية والمسدودة المخارج !
نقد المسار العفوي للحراك، لا يقلل بالمرة من الأهمية التاريخية غير المسبوقة لهذا الحراك في البلدين معا. فلأول مرة ثمة حراك شعبي قوي عابر للطوائف والمذاهب ومصمم على رفض النظام القائم. وفي بلدين بلغ فيهما الفساد والنهب حداً لا يطاق ولا تقارن أضراره الاجتماعية والاقتصادية والمعاشية مع أي بلد آخر. هذه حقيقة صارخة لا مراء فيها. غير أن عجز الحراك على تقديم بديل قيادي يعبر عن تطلعات مكوناته الاجتماعية يقيد مفاعيله التغييرية على بنية النظام، خاصة وأن نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية الذي كرسته أعراف الطبقة السائدة خارج الدستور نفسه في لبنان، والذي أقامه دستور الحاكم الأمريكي السابق بريمر في العراق المحتل وعلى نموذج هش قابل للتحول إلى كنفيدرالية للمحافظات ذات اللون المذهبي والإثني… صار من المتانة والرسوخ ما يجعله غير مطواع للتغيير المفاجئ السريع. وهذا الواقع أعقد وأكبر من مجرد إجراء انتخابات جديدة تقوم على تغيير في نمط الاقتراع خارج القيد الطائفي والمذهبي.. لأن بنية المحاصصة تخترق مستويات الدولة من أسفلها إلى أعلاها وتتحكم في مؤسساتها ومرافقها العامة، فضلا عن التكوين الاجتماعي المذهبي والطائفي للأحزاب الرئيسة، وعن مناهج التعليم وتشريعات الأسرة ودور المراجع الدينية… وإذا كان من الضروري الشروع في حوار وطني لوضع خريطة طريق للخروج من هذا القفص إلى نظام مدني حديث، فإن طرح المسألة بتلك الشمولية التحديثية، سيفرز لا محالة معارضات توارت عن الأنظار مؤقتا، بفعل الحراك، ولا سبيل آخر لتجاوزها إلا بالحوار والإقناع والتدرج خطوة خطوة، وإلا انجر الحراك إلى تكرار الخطأ الجسيم للقوى التقدمية اللبنانية في السبعينيات من القرن الماضي.. يقينا أن قوة الحراك في أنه يمثل وعيا تحديثيا وازنا لأجيال جديدة، لكن حذاري من الاستسهال والاستعجال فللبنيات التقليدية، في ظل التحديات والعوائق الاقتصادية القائمة، قوتها المغناطيسية الحمائية الجاذبة والقادرة على الالتفاف والاستمرار !
وبوجه عام، لا يكفي النظر إلى الحراك العفوي في أي بلد من خلال ما يطالب به فقط، الحرية والكرامة وغيرهما. إذ تُبين جميع التجارب العربية، أن الحراك العفوي لا يخلو مع ذلك من تناقضات داخلية بين مكوناته الاجتماعية والسياسية والثقافية. فثمة على الأقل فروقات نوعية بين جماهير الكادحين والمهمشين والمعطلين بمختلف أصنافهم، التواقين أساساً إلى العدالة الاجتماعية، والذين سرعان ما يتخلون عن المشاركة، ولو إلى فترة أخرى، عندما يشعرون أن ما حققه الحراك من تغييرات سياسية، بالدرجة الأولى، لا يتناسب مع طموحاتهم في العدالة الاجتماعية. وبين شرائح أخرى، ذات وزن، من “الطبقة الوسطى” محركها الأساسي الحريات السياسية والفردية. وفئة ثالثة من المنظمين حزبيا تحركهم أجنداتهم السياسية والأيديولوجيا، وفي معظمها أجندات ليبرالية تعيد تجديد النظام الرأسمالي التبعي بأشكال أخرى تسعى إلى أن تكون أكثر فعالية وحظوة في النظام الرأسمالي العالمي.
وفي جميع التجارب التي سقط فيها رأس النظام كان الجيش هو صاحب المبادرة الحاسمة. وما عدا ذلك، فإن عجز الحراك الشعبي العفوي عن تشكله ككتلة اجتماعية–ثقافية منظمة وبديلة للنظام القائم، لا ينتج في أحسن أحواله، سوى نظام سياسي ليبرالي، والذي كيفما كانت إيجابياته، يظل حبيس تناقضه العضوي بين الليبرالية المترنحة وبين الحاجات الضاغطة للديمقراطية الاجتماعية. ولا حل لهذا الناقض إلا عندما يصل الحراك العفوي، الذي سيبقى إمكانا دائم الوقوع، إلى أن يتبلور في كتلة اجتماعية– ثقافية بديلة وحاملة للتطلعات الاجتماعية ضدا على توازنات وقيود النيوليبرالية السائدة.