الصحافة _ كندا
في خطوة وُصفت بأنها زلزال مؤسساتي داخل منظومة الشفافية بالمغرب، قررت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها توقيف تنفيذ صفقة إعداد “خريطة مخاطر الفساد في قطاع الصحة”، بعد أن تفجرت شبهة تضارب مصالح خطيرة تهدد مصداقية واحدة من أهم الدراسات التي كانت تراهن عليها الدولة لتشخيص أعطاب المنظومة الصحية.
القرار المفاجئ لم يكن معزولًا عن الجدل الواسع الذي أثارته عملية إسناد الصفقة إلى المكتب الفرنسي الأمريكي “Forvis Mazars”، الذي يتولى في الوقت نفسه مهام الاستشارة والتدقيق المالي لشركة “أكديطال”، أحد أكبر الفاعلين في القطاع الصحي الخاص بالمغرب.
إن تضارب المصالح هنا لم يكن مجرد خطأ إداري أو سهو شكلي، بل مسّ جوهر الثقة في استقلالية الهيئة، وأعاد طرح السؤال الكبير حول مدى قدرة المؤسسات المكلفة بحماية المال العام على ضمان الحياد عندما تتقاطع المصالح الاقتصادية مع الوظائف الرقابية.
منطق الأمور يقول إن مكتباً يرتبط بعلاقات تجارية قائمة مع فاعل ضخم داخل نفس القطاع لا يمكنه أن ينجز دراسة موضوعية عن الفساد في المنظومة التي تضم زبونه. فكيف يمكن لمكتب يدقق حسابات مجموعة خاصة أن يكون في الآن ذاته من يرسم “خريطة الفساد” داخل نفس البيئة التي تحقق له أرباحه؟ إنه وضع يجعل من هذا المكتب خصماً وحكماً في الوقت نفسه، ويضرب في العمق مصداقية الدراسة التي كان يُفترض أن تكون مرجعاً وطنياً لمكافحة الفساد في قطاع حيوي.
الهيئة، بإعلانها توقيف الصفقة مؤقتاً، حاولت امتصاص الصدمة واستعادة زمام المبادرة، لكن القرار يعكس في الوقت ذاته حجم الإرباك الداخلي الذي أحدثته الفضيحة. فالمؤسسة التي يفترض أن تكون رمزاً للنزاهة تجد نفسها فجأة موضع مساءلة أخلاقية وقانونية، ما يجعل من هذه الواقعة اختباراً حقيقياً لقدرتها على فرض مبادئ الشفافية على نفسها قبل أن تفرضها على غيرها.
المفارقة أن هذه الأزمة تنفجر في سياق اجتماعي وسياسي بالغ الحساسية. فالغضب الشعبي الذي فجّرته احتجاجات “جيل زد” حول العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد وضع كل مؤسسات الدولة تحت مجهر الرأي العام، ورفع سقف الانتظارات بشكل غير مسبوق.
وفي خضم هذا المناخ المشحون، تأتي فضيحة تضارب المصالح في دراسة “الفساد الصحي” لتكشف أن الخلل لا يقتصر على الممارسة الحكومية، بل يمتد أحياناً إلى أدوات الرقابة ذاتها، التي يُفترض أن تكون صمام الأمان ضد الانحرافات.
توقيف الصفقة ليس نهاية القصة، بل بدايتها. فالقضية تحولت إلى اختبار حقيقي للهيئة: هل ستتجه إلى إلغاء الصفقة نهائياً وإعادة طرحها بشروط أكثر صرامة، أم ستكتفي بتعديلات شكلية تحفظ ماء الوجه دون معالجة جوهر الإشكال؟ الجواب على هذا السؤال سيحدد مستقبل مصداقية الهيئة ومكانتها ضمن المنظومة الوطنية للنزاهة.
إن ما جرى لا يعبّر فقط عن خطأ في مسطرة إدارية، بل عن أزمة ثقة عميقة تمس جوهر العلاقة بين الدولة والمجتمع في ملف الفساد. فالهيئة التي أُنشئت لتكريس الشفافية تجد نفسها اليوم مطالبة بأن تُثبت أن النزاهة ليست شعاراً بل ممارسة، وأن محاربة الفساد تبدأ من داخل المؤسسات نفسها.
إن ما حدث هو درس قاسٍ، لكنه ضروري. فإما أن تُثبت الهيئة أنها قادرة على تصحيح مسارها بشجاعة، أو تتحول هذه الواقعة إلى نموذج يُدرّس كنقطة سوداء في تاريخ مؤسسات مكافحة الفساد.