الصحافة
زكرياء البركاوي
تعيش فئة عريضة من المجتمع حالة من الذعر والارتباك بسبب القرارات الأخيرة المتعلقة بمنع أي نشاط غير منظم في الملك العام.
يأتي هذا القرار في إطار حملات واسعة تهدف إلى تحرير الملك العام من الباعة المتجولين، كما يتزامن مع توجه مالي واقتصادي تسعى من خلاله السلطات العمومية إلى فرض التعاملات المالية الإلكترونية حصراً، والحد من الأنشطة التجارية التي تعتمد على التعامل النقدي.
ومع ذلك، دعونا نترك الجانب المالي لأهل الاختصاص، ونطرح السؤال الاجتماعي الأهم:
هل لا توجد مقاربة سياسية توازن بين حماية هذه الفئة من الهشاشة ومنع تهميشها، وبين الحفاظ على الأمن والنظام العام؟
وهل هناك بدائل مرنة تتيح استمرار هذه الفئة في كسب عيشها بكرامة؟
الباعة المتجولون آفة مجتمعية اساسها في الأصل الفقر، و هم فئة مجتمعية غير مستقرة في مجال التجارة حيت أن أغلبهم يتركون التجارة في الشوارع بمجرد أن يحصلوا على عمل قار، أو أن تصبح فئة منهم قادرة على هيكلة تجارتها حسب القانون و امتلاك محل تجاري، ما يعني أن الاتجاه نحو هيكلة كل الباعة المتجولين في إطار مقاولات أمر صعب التحق، و لعل غير ببعيد عنا في كل من اسبانيا و البرتغال رغم تطوير الأداء الالكتروني، و محاربة التهرب الضريبي الا أنهم استطاعوا وضع سياسات مرنة تحافظ على هاته الفئة من مواجهة المجهول، خاصة و أن (الفراشة)استوعبت عددا كبيرا من العاطلين و جعلتهم يخرجون من وضعية الهشاشة.
في البرتغال، قدمت البلدية دعمًا كبيرًا للباعة المتجولين من خلال تخصيص أسواق معينة لهم. هذه الأسواق ليست مؤقتة، بل تم تجهيزها بكافة المرافق الضرورية لتمكينهم من العمل بشكل قانوني ومنظم. من أبرز ميزات التجربة البرتغالية أنها لم تفرض هيكلية تجارية صارمة على الباعة، بل سمحت لهم بالعمل ضمن إطار مرن يحترم طبيعة نشاطهم.
تم توزيع هذه الأسواق في أحياء المدن، ووفرت السلطات المحلية إطارًا قانونيًا مرنًا يتيح للباعة العمل دون مخاطر الملاحقة أو العقوبات. كما أن هذه المقاربة تحترم كرامة الباعة وتضمن استمرارية أنشطتهم، بينما تستفيد الدولة من إضفاء الطابع المؤسسي على هذه العملية بما يحافظ على الملكية العامة والجودة والصحة العامة.
في إسبانيا، تم اتباع نهج مشابه مع إضافة عنصر رقمي، حيث تم دمج الباعة المتجولين في نظام رقمي يتيح لهم الحصول على تصاريح للعمل في مناطق محددة دون تعقيدات بيروقراطية.
يهدف هذا النظام الرقمي إلى تنظيم الأنشطة، مما يساعد أيضًا في إنشاء قاعدة بيانات تُستخدم لمراقبة أنشطة الباعة لضمان العدالة الضريبية من جهة، وحماية حقوقهم، خاصة وأنهم غالبًا ما ينتمون إلى فئات اقتصادية هشة.
كما تم تخصيص مناطق حول الأحياء والأسواق يُسمح فيها للباعة بممارسة أنشطتهم دون التسبب في اختناقات مرورية أو ازدحام. وتم تنظيم أوقات البيع لضمان عدم تداخلها مع الفعاليات الاقتصادية الأخرى داخل نطاق المدينة. بالإضافة إلى ذلك، أطلقت إسبانيا برامج تدريب للباعة المتجولين في مجالات التعامل مع الزبائن والالتزام بلوائح الصحة والسلامة، مما يعزز جودة خدماتهم ويضعهم في موقع أفضل للاندماج في الاقتصاد الرسمي.
كما أظهرت التجربتان البرتغالية والإسبانية، فإن الحل الأمثل لم يكن في الحد من نشاط الباعة المتجولين أو إزاحتهم، بل في توفير أماكن مناسبة لهم. ويمكن لدول أخرى، مثل المغرب، الاستفادة من هذه التجارب من خلال:
إنشاء أسواق مخصصة سيكون هذا عاملًا موازنًا بين حق الدولة في حماية الملكية العامة وحق الباعة المتجولين في ممارسة نشاطهم، من خلال إنشاء مواقع مناسبة ومجهزة بشكل جيد لهم. كذلك توفير نظام إلكتروني يُمكّن الباعة من الحصول على تصاريح، مما يسمح لهم بالعمل بوسائل قانونية دون أي بيروقراطية. كما يُسهل ذلك على الدولة مراقبة الأنشطة وضمان العدالة في الالتزامات الضريبية.
إضافة لكل ما سبق تقديم برامج تدريبية تهدف إلى تطوير مهارات الباعة، وتعليمهم مبادئ الصحة والسلامة العامة، مما يرفع مستوى الجودة ويبني الثقة مع العملاء. ستسهم هذه الإجراءات في تحقيق توازن بين حقوق الباعة وواجبات الدولة في الحفاظ على النظام العام. فالنظام العام أساسه موطنون يعيشون بكرامة دون الخوف من تقلب وصعهم المادي والاجتماعي.