الصحافة _ وكالات
في قاعة منفصلة عن صخب قمة العشرين الأخيرة في اليابان..ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالنبوءة التي أغضبت البعض، وشغلت الجميع: ليبراليتكم سوف تختفي.
القمة جاءت وسط تفاقم التوتر السياسي وتراجع النمو الاقتصادي العالمي، لتناقش قضايا الاقتصاد العالمي والتجارة المتباطئة وحروب الجمارك والعقوبات الاقتصادية.
ربما كان ذلك هو الدافع أمام بوتين حين أثار نقطة استفزازية خلال مقابلة مع جريدة Financial Times، عندما قرر أن يشغل العالم مجددا بالجدل حول الليبرالية التي تنفرد بحكم اقتصاد العالم منذ سبعينيات القرن الماضي.
أضاف: الفكرة الليبرالية تجاوزت الغرض منها، وقد اعترف شركاؤنا في الغرب بأنَّ هناك بعض مكونات الفكرة الليبرالية، مثل التعددية الثقافية، لم يعد من الممكن دعمها.
هل هي نبوءة أم مجرد استفزاز للخصوم، المشاركين في القمة، ربما باستثناء الرئيس الصيني؟
لماذا أصبحت الليبرالية مثيرة لكل هذا الجدل؟
على هذا السؤال يجيب بوتين، وريث امبراطورية الشيوعية السوفيتية، بأن
“النخب الحاكمة انفصلت تماماً عن شعوبها. المشكلة الواضحة هي تزايد الفجوة بين مصالح النخبة والأغلبية الكاسحة من الشعب”
تصريحات بوتين ربما تعني أنَّ القوى الأوتوقراطية والشعبوية في تصاعد.
حتى عندما علَّق دونالد توسك Donald Tusk، رئيس المجلس الأوروبي، على تويتر قال بحدة: ما عفا عليه الزمن حقاً هو الاستبداد، والحكم الطائفي، وحكم الأقلية.
وربما يكون تعليق توسك هو المستغرب هنا، خاصةً وقد شارك منصة قمة العشرين مع الرئيس بوتين كلٌّ من الرئيس الصيني شي جين بينغ، والرئيس البرازيلي اليميني جايير بولسونارو، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان. لكنَّ بوتين استغل بالتأكيد اجتماعات قمة العشرين باعتبارها منتدًى مرئياً يحظى بمتابعةٍ كبيرة لتقديم نفسه، وديمقراطيته الموجهة، على قدم المساواة من الديمقراطيات الغربية التي اتهمها بالشيخوخة.
المغني البريطاني إلتون جون أيضا شعر باستياء من تصريح الرئيس الروسي، وقال في بيان إلى بوتين إنه شعر بالاستياء، “أختلف بشدة مع وجهة نظرك بأن اتباع سياسات تعتنق التنوع الثقافي والجنسي أصبح باليا في مجتمعاتنا”.
واتهم أيضا جون، وهو مثلي، بوتين بالنفاق لقوله في نفس المقابلة إنه يريد أن يعيش المثليون في سعادة. وأفادت تقارير بأن روسيا حظرت مشاهد لمثليين في فيلم(روكيت مان) المأخوذ عن قصة حياة جون.
في صيف 1989، نَشَرت مجلة ناشيونال إنترست مقالاً بعنوان نهاية التاريخ؟ للمفكر الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama، وأُطْروحَتهُ الأساسيَّة أن الديمقراطيَّة الليبراليَّة بقِيَمها عن الحرية، الفردية، المساواة، السيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، تُشَكِّلُ مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغةٍ نهائيةٍ للحكومة البشرية.
نظرية نهاية التاريخ لا تعني توقف الأحداث أو العَالَم عن الوجود، ولا تقترح تلقائية تبني كافة مجتمعات العالم للديمقراطية، المقصود وجود إجماع عند معظم الناس بصلاحية وشرعية الديمقراطية الليبرالية، أي إنتصارها على صعيد الأفكار والمبادئ، لعدم وجود بديل يستطيع تحقيق نتائج أفضل. وعلى المدى البعيد، سوف تغلب هذه المبادئ وهناك أسبابٌ للإيمان بذلك.
متى بدأت الفكرة الليبرالية التي رأى فوكوياما أنها خاتمة أفكار التطور الفلسفي والاقتصادي والثقافي للإنسان؟
وهل ما زالت عند حسن ظن المفكر الليبرالي الأكثر شهرة في هذا العصر؟
حرب بلا هوادة على الشيوعية
في منتجع مون بيلرين Mont Pèlerin السويسري، وفي عام 1947، التقى مجموعة من مشاهير المثقفين والأكاديميين الذين يجمعهم العداء للشيوعية، وأصدروا بيانا تأسيسيا يحمل اسم المدينة، حذروا فيه من أن القيم المركزية للحضارة معرضة للخطر، والشروط الضرورية لكرامة الإنسان وحريته مهددة بالاختفاء.
وحتى أثمن ما يملكه الإنسان الغربي: حرية التعبير والتفكير، أصبح مهددا بفعل انتشار عقائد، تدعي التسامح وهي في موقف الضعف، ولكنها تسعى للتفوق والقوة والسيطرة، بحيث تتمكن من إبادة كل وجهات النظر المخالفة.
أعلى الليبراليون الجدد، على سبيل المثال، مما وصفه سميث بـ «يد السوق الخفية»، التي اعتقدوا بقدرتها على إطلاق غرائز الإنسان البدائية في الجشع والإشباع والبحث عن الثروة، التي نظروا إليها باعتبارها قوى لصناعة التقدم والرفاه الاقتصادي. وكان طبيعيا أن تعارض مجموعة مونت بيلرين نظريات دور الدولة التدخلي في المجال الاقتصادي.
إنه “ذلك الجشع الإنساني الحميد” الذي يعمل محركا للسوق ومبدعا للأفكار وحافظا للنوع.
لكن الفكرة الجديدة لم تنشر وقت إطلاقها، ذلك أن الغرب كان في حالة حرب أفكار مع الشيوعية، ما دفعه لتبني شكل دولة الرعاية الكاملة، فيما بنى أنصار الليبرالية الجديدة صرحهم النظري على أساس منع تدخل الدولة أيا كانت الظروف.
كانت الفكرة إذن تنظر اختفاء الشيوعية ليعيد الغرب الاعتبار لها، وهو يتنزه على الكوكب وحيد القطب، لدى انهيار الاتحاد السوفييتي.
الباحث بشير موسى نافع، وهو مؤرخ فلسطيني يعيش في بريطانيا، رصد لحظة فارقة في تاريخ الإنسانية، مع امتداد رقعة الليبرالية الجديدة، وما نقشته في السياسة والاقتصاد والثقافة. “سرعان ما التحق بالموجة الجديدة نظام بينوشيه في تشيلي، وتورغوت أوزال في تركيا (الذي وصفته تاتشر بأنه «واحد منا»)، وسوهارتو في إندونيسيا؛ ثم بدأ النموذج في التوسع عبر الاقتصادات الصاعدة في آسيا، وفي أمريكا اللاتينية، ودول عالمثالثية أقل أهمية في موازين الاقتصاد العالمي، مثل مصر.
ماذا كانت النتيجة؟
كُسرت إرادة نقابات العمال في إضراب عمال شركات الطيران الأمريكية ونقابة عمال الفحم البريطانية، وتراجعت مكاسب الطبقة العاملة في كافة أنحاء الأرض تقريبا. أخذت الدول في بيع ممتلكات القطاع العام بأبخس الأسعار، وأصبح من الممكن لشاب صغير، يعمل سمسارا في شركة مالية بريطانية أو أمريكية أو صينية، أن يحقق، خلال عام واحد، ثروة تفوق ما كان يمكن لمصنع أن يحققه خلال عقود.
وهكذا: لم يتطلب الأمر زمنا طويلا لانكشاف هشاشة النموذج وخطره.
خلال سنوات قليلة من نهاية التسعينات، انهار الاقتصاد التركي، وتبعه الاقتصاد الإندونيسي، كما اقتصادات دول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، الواحدة منها تلو الأخرى. ولكن النموذج الليبرالي الجديد أصبح عقيدة ودينا، أكثر منه سياسة براغماتية. عندما تولى توني بلير الحكم في 1997، باسم حزب العمال الجديد، اتبع سياسة لا تقل ليبرالية عن مارغريت تاتشر. وكذلك فعل كلينتون في الولايات المتحدة.
في كتابه «موجز تاريخي لليبرالية الجديدة» يُعرِّف المنظر الماركسي البريطاني ديفيد هارفي David W. Harvey النيوليبرالية بأنها “نظرية في ممارسات الاقتصاد السياسي، تفترض أن أفضل وسيلة لتعزيز سعادة الإنسان ورخائه تكمن في إطلاق حريات الفرد ومهاراته في القيام بمشاريعه وأعماله، ضمن إطار مؤسساتي يتصف بحقوق قوية للملكية الخاصة والأسواق والتجارة الحرة.
أما دور الدولة فيتمثل في خلق هذا الإطار المؤسساتي والحفاظ عليه بما يلائم هكذا ممارسات، فيتعين على الدولة مثلًا أن تضمن جودة ونزاهة النقد، وعلى الدولة أيضًا أن تنشئ الهيكليات والوظائف العسكرية والدفاعية والشرطية والقانونية اللازمة لتأمين الحقوق الملكية الخاصة، وأن تضمن -بالقوة إن لزم الأمر- عمل الأسواق بالشكل الصحيح الملائم.
وعلاوة على ذلك يتعين على الدولة في حالة عدم وجود أسواق في بعض المجالات مثل المياه والتعليم والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي، أن تخلقها، وبعمل تقوم به الدولة إذا لزم الأمر، وفيما خلا هذه المهام، لا يجوز للدولة أن تتدخل”.
من المهم هنا أن نشير إلى أن مصطلح النيوليبرالية هو مصطلح يحوي شحنات سياسية يسارية قوية في أكثر الأحيان، لا سيما حين يكون السياق هو انتقاد للنظام الاقتصادي الرأسمالي، ويتم استخدامه في هذا الإطار كوصمة أكثر منه مفهوما لنظرية اقتصادية أو سياسية.
لقد كان تاريخ توزيع الثروة دائمًا سياسيًا في العمق، ولا يمكن اختصاره في الآليات الاقتصادية المحضة.
اكتشاف للاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي Thomas Piketty في كتابه ذائع الصيت “الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين”.
تتبع الباحث تطور توزيع الثروة منذ القرن الثامن عشر وحتى القرن الحادي والعشرين، وكانت المفاجأة: الثروة، أو رأس المال، تتركز في أيدٍ أقل فأقل دومًا، أي في أيدي الطبقات العليا، وعلى الإنسان الصعود إلى الأعلى، طبقيًا، لكي يصبح العائد من رأس المال أعلى من العائد من العمل.
يقولها الباحث وهو يؤكد: ليس لدي أي اهتمام بإدانة اللامساواة الرأسمالية بحد ذاتها.
في فصل بعنوان صعود كبار المديرين: ظاهرة آنغلوساكسونية، يضرب بيكيتي مثالًا على عجز نظرية السباق بين التكنولوجيا والتعليم عن التفسير، إذ أن «انفجار الرواتب المرتفعة جدًا حدث في بعض الدول المتقدمة ولم يحدث في البعض الآخر». ويكمل قائلًا أن هذا الانفجار حدث اعتبارًا من عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، مؤكدًا، على أن السبب في ظاهرة انفجار اللامساواة هذه يعود إلى أن «الفوارق المؤسسية بين البلاد لعبت دورًا أكثر مركزية من الأسباب العامة المسلم بها مثل التغيير التكنولوجي».
بكلمات أخرى، يعود بيكيتي إلى “الأسباب السياسية” خلف زيادة التفاوت واللامساواة وليس السوق وحدها.
ومرة أخرى نعثر على ثمار المنعطف الذي اتخذه العالم وهو يستسلم لقواعد الليبرالية الجديدة بعد اختفاء إمبراطورية السوفييت الشيوعية وشعاراتها عن المساواة.
في الولايات المتحدة مثل، استطاعت الشريحة الأكثر ثراء، 0.1% من عدد السكان، أن ترفع نصيبها في الثروة من 2% إلى 10% تقريبًا على مدار العقود الماضية، وهي زيادة غير مسبوقة.
كان التحذير الأهم في بحث بيكيتي، تحذيره من كارثة غياب العدالة عن الاقتصاد. لاحظ الرجل أن 60-70% من إجمالي ثروة العالم الآن، هي ثروات متوارثة، وهي في ارتفاع مستمر، وبالتالي قد نجد قريبًا أننا عدنا إلى العصر الذهبي للرأسمالية (1870-1914) عندما كان 80 إلى 90% من الثروة متركزا في أيدي قلة قليلة من الأشخاص.
رغم كل الملاحظات التي قد تبدو يسارية المنشأ، فقد واجه كتاب بيكيتي رفض الكثير من الماركسيين، الذين وصفوه بأنه رجعي، هدفه تأبيد النظام الرأسمالي، والعودة بالرأسمالية إلى ما قبل الأزمة الأخيرة.
ثم اكتشفت أن الثمار المرة للحرية الاقتصادية أكثر من المتوقع
اعتبر أبناء الليبرالية الغربية تفكيك الاتحاد السوفيتي انتصارا لقيم الغرب التي تعتمد الحرية الفردية والثقافية أساسا لها، على منظ،مة الفاشية والاستبداد وقمع الإنسان باسم المجتمع.
ومنذ السبعينيات قام اليمينيون والوسطيون بالسخرية من أي شخص يطالب بكبح جماح الرأسمالية- ناهيك عن إعادة تشكيلها أو استبدالها- واصفين إياه بأنه يرغب في إعادة العالم “إلى السبعينيات”. اعتبر تغيير نظامنا الاقتصادي خيالاً، ليس أكثر عملية من السفر عبر الزمن.
ومع ذلك كما يضيف تقرير The Guardian، وفي السنوات الأخيرة، بدأ هذا النظام بالفشل.
بدلاً من الرخاء المستدام والمشترك على نطاق واسع، أنتج الركودَ في الأجور، وازداد عدد العمال الذين يعانون من الفقر، وازدادت عدم المساواة، والأزمات المصرفية، والثورات الشعوبية، وكارثة المناخ الوشيكة.
حتى كبار السياسيين اليمينيين يعترفون أحياناً بخطورة الأزمة.
في مؤتمر حزب المحافظين البريطاني العام الماضي، أقر المستشار فيليب هاموند أن “فجوةً قد انفتحت” في الغرب “بين النظرية والواقع فيما يخص أداء اقتصاد السوق. كثير من الناس يشعرون أن … النظام لا يعمل لصالحهم.”
في يونيو 2016 فاجأ موقع صندوق النقد الدولي زوّاره بمقال نقدي قاس، يتهم الليبرالية الجديدة بأكثر مما يقوله الخصوم التاريخيون للرأسمالية. إذ اعترف التقرير بأن “بعض السياسات النيوليبرالية تزيد من عدم المساواة بدلاً من تحقيق النمو”. ويخلص التقرير من تقييم بعض السياسات المحددة في الأجندة النيوليبرالية إلى استنتاجات مقلقة، أهمها أن اتساع رقعة عدم المساواة يؤذي مستوى النمو واستدامته.
ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها الليبرالية للاتهامات، وتبدو في حاجة لمرافعات تبرر وجودها، وتحكمها في اقتصاد العالم تقريبا.
وإذا كنا اليوم نسمع خطابا يسوّق الليبرالية بوصفها النظام المجتمعي الأخير، أي الذي يؤشر إلى نهاية التاريخ، فإن المفارقة المدهشة هي أننا لو رجعنا إلى الأدبيات الليبرالية التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين، فسنجدها مسكونة بخطاب انهزامي قلق مثقل بلغة التبرير، يركن إلى الدفاع عن استمرارية الليبرالية ومحاولة التدليل على أنها لم تتجاوز.
حتى فوكوياما الذي بشر بانتهاء الحيرة الإنسانية بعد العثور على شاطئ الليبرالية كنهاية سعيدة للتاريخ، ظهر مؤخرا في كتاباته ومحاضراته وقد بدأ يدق ناقوس الخطر لنظرته المتفائلة السابقة، بعد مراجعة متغيرات كثيرة على مدار أكثر من حقبتين، فهو يرى أن عام 2008 شهد بداية انحسار التيار الليبرالي العالمي على مستويين: الأول سياسي، والثاني اقتصادي.
سياسيا يتحدث فوكوياما الآن عن “الكساد الديمقراطي”، بعد تراجع الليبرالية في كثير من الدول، وانتشار التيار الشعبوي في أميركا اللاتينية ثم أوروبا، وهو تيار يعتمد على زعيم سياسي قوي، يلتف حوله جزءٌ غير هين من الأمة، ويتخذ قراراته على أساس مصلحة انتخابية ضيقة وأيديولوجية متشددة، وليس على أساس سياسات سليمة على المدى المتوسط والطويل. وهكذا عرفت أوروبا لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية صعود حركات علنية تجاهر بكراهية الغريب والمهاجر واللاجئ، بل وقد تكتسب أرضية انتخابية كبيرة من وراء هذه الشعارات.
أما على الصعيد الاقتصادي فقد شهد العالم حالة من الانفتاح الاقتصادي والتجاري والاستثماري حتى عام 2008، نتج عنها مضاعفة الدخل قرابة أربعة أضعاف على المستوى الدولي، ولكن هذه المضاعفة جاءت إما بقيمة دفترية، أو أنها لم تهبط إلى الطبقات الأدنى، فظلت معلقة لصالح الطبقات الغنية.
أخيرا وعلى المستوى الاجتماعي، شهدت كثير من الدول الليبرالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة ذاتها، انخفاض مستوى دخل نصف الطبقة الوسطى تقريباً، مقارنة بالفترات الزمنية السابقة لهذا الانفتاح.
وكتب الباحث السياسي عمرو حمزاوي راصدا ما يسميه “مرحلة جديدة من الصراع حول الجوهر الأخلاقي والمجتمعي للنموذج الأوروبي”.
إنها حسب الكاتب مرحلة بدأت على وقع صعود اليمين المتطرف وتفاقم قضايا الفقر والتوزيع غير العادل للدخل بين قطاعات السكان ومسألتي الهجرة واللجوء.
فمن المعروف أن تجربة الاندماج الأوروبي بدأت في سياق النجاحات المتتالية “لدولة الرفاه” في الشطر الغربي في بناء اقتصاديات سوق ذات بعد اجتماعي ونظم متكاملة للرعاية المجتمعية وتنظيم ليبرالي ديمقراطي للمجال السياسي دفع بتقاليد الإنسانية والعلمانية الأوروبية إلى الواجهة.
دولة الرفاه هذه دخلت منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين في سلسلة من الأزمات الاقتصادية بحكم تراجع معدلات النمو والسياسية في ظل تصاعد الخطاب الليبرالي الجديد الرافض للجانب الاجتماعي في التجربة الأوروبية ثم صعود اليمين المتطرف.
هيمنت الليبرالية الجديدة ومنطق اقتصاد السوق المتجرد من الاعتبارات المجتمعية والباحث على الدوام عن مواطن العمالة الرخيصة على التسعينيات، واليوم تهيمن قضايا الهجرة واللجوء التي يصدرها اليمين المتطرف كأصل كل الأزمات على الفضاء العام وتتراجع بعنف الثقة في دولة الرفاه العادلة اجتماعيا والقادرة على حماية القيم الإنسانية في مواجهة النزعات القومية والعنصرية.
وكانت الشعوبية هي الرد العنيف على العولمة التي فرضتها الليبرالية
في مارس/ أذار 2008، زار المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما دولة الإمارات، وبدا الرجل أكثر تصميما على عقيدة انتصار الليبرالية الغربية، رغم أن الليبرالية تنقض على قيمها الخاصة، وتتخذ الشعوبية وأفكار اليمين المتطرف أساسا للديمقراطية الغربية.
وأعرب في حواره مع إحدى الصحف هناك عن ثقته بأن الحضارة الغربية ستذيب الحضارات الأخرى وما تحمله من قيم مضادة لحضارة الغرب· فالعولمة الثقافية قدر محتوم، ومعظم هذه الهويات الثقافية لن تصمد كثيراً بمجرد دخولها في اقتصاد السوق· فمعيار بقاء المجتمعات وتطورها ليس بعدد المواليد بل بديناميكية الحياة ومستوى التطور التكنولوجي وارتفاع مستوى الإنتاجية· فمثلما يختلط المال المحلي برأس المال العالمي ستختلط الثقافات وتمتزج الحضارات·
ومن نافذة تطل على بقية العالم التي لا تعتنق الديمقراطية الغربية، يقول فوكوياما إن أحد المعوقات الأساسية للديمقراطية انخفاض دخل الفرد مما يجعل الناس لا شاغل لهم إلا تأمين قوت يومهم· وفي حالة وجود انتخابات حرة فسيقبل الناس بأصواتهم على من يعدهم بلقمة عيش وليس لمن سيعمل على ترسيخ مبادئ الحرية والمساواة، ويضمن لهم احترام حرياتهم الفردية·
هكذا رجع الفكر الإنساني إلى المربع رقم واحد، وهو سؤال القوت اليومي، الذي شيّدت الشيوعية عليه صروحها الفكرية، وردت عليها الليبرالية بالمثل، حتى سبقتها وانتصرت عليها. لكن النظريتين أخفقتا في تأمين هذا الحد الأدنى لك سكان الكوكب: لقمة العيش.
لم تكن هذه المراجعة الذاتية الوحيدة للمفكر الليبرالي الكبير.
يرى الآن أن حساب السياسة الخارجية الأميركية سلبياً في محصلته·
وأن الحرب على العراق كارثية بكل المعايير·
وأن استخدام القوة ضرورة لنشر الديمقراطية ومحاربة الجماعات الإسلامية المتطرفة· “اعتماد أساليب القوة الناعمة والاحتواء السياسي في السياسة الخارجية هو الأجدى· وذلك من خلال الدفع الذاتي للمجتمعات الإسلامية نحو الديمقراطية، وترسيخ مؤسسات مدنية قوية وقنوات للمشاركة وحكم سليم ستكون أكثر جدوى”·
أصبح هناك اعتراف بالحاجة إلى اقتصاد “أكثر ديمقراطية”
مشروع شركة Democracy Collaborative لتوليد الكهرباء من الشمس في كليفلاند نعم، هناك أشواق إلى مجتمع أكثر عدالة وشمولية وأقل استغلالاً وأقل تدميراً.
في السنوات الأخيرة ثار الناخبون ضد الليبرالية الجديدة. بينما أصبحت المؤسسات الاقتصادية الدولية- مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي- تدرك سلبياتها. وأدت الأزمة المالية لعام 2008 والتدخلات الحكومية غير المتوقعة التي أوقفتها إلى تشويه سمعة مبدأين نيوليبراليين مركزيين: أن الرأسمالية لا يمكن أن تفشل ، وأن الحكومات لا يمكن أن تتدخل لتغيير آلية عمل الاقتصاد.
بدأت شبكة ناشئة من المفكرين والناشطين والسياسيين في اغتنام هذه الفرصة. تحاول هذه الشبكة بناء نوع جديد من الاقتصاد اليساري: اقتصادٍ يعالج عيوب اقتصاد القرن الحادي والعشرين.
كريستين بيري Christine Berry، الأكاديمية البريطانية الشابة المستقلة، هي إحدى الشخصيات الرئيسية في هذه الشبكة. وتقول بيري لصحيفة The Guardian : “نحن نعيد الاقتصاد إلى الأساسيات. نريد من الاقتصاد أن يسأل: من يملك هذه الموارد؟ من الذي يملك السلطة في هذه الشركة؟ الخطاب الاقتصادي التقليدي يحجبُ هذه الأسئلة ، لصالح من يملكون السلطة. ”
يريد الاقتصاد اليساري الجديد رؤية إعادة توزيع السلطة الاقتصادية ، بحيث تكون بيد الجميع، تماماً مثلما تكون السلطة السياسية بيد الجميع في ديمقراطية سليمة.
إن إعادة توزيع السلطة هذه قد تنطوي على امتلاك الموظفين لجزء من كل شركة؛ أو أن يقوم السياسيون المحليون بإعادة تشكيل اقتصاد مدينتهم لصالح الأعمال التجارية المحلية بدلاً الشركات الكبرى؛ أو أن يحول السياسيون الوطنيون التعاونيات إلى شيء مألوف في الرأسمالية.
ليس هذا “الاقتصاد الديمقراطي” مجرد خيال مثالي: يتم بناء أجزاء منه بالفعل في بريطانيا والولايات المتحدة. ويجادل الاقتصاديون الجدد أنه بدون هذا التحوّل فإن عدم المساواة المتزايدة في القوة الاقتصادية ستجعل الديمقراطية نفسها غير قابلة للتطبيق قريباً.
جعل الاقتصاد أكثر ديمقراطية سيساعد بالفعل في إعادة إحياء الديمقراطية: من غير المرجح أن يشعر الناخبون بالغضب أو اللامبالاة إن تم تضمينهم في القرارات الاقتصادية التي تؤثر بشكل أساسي على حياتهم.
مشروع الاقتصاديين الجدد الطموح الهائل يعني تغيير العلاقة بين الرأسمالية والدولة، بين العمال وأرباب العمل، بين الاقتصاد المحلي والعالمي، وبين ذوي الموارد الاقتصادية وأولئك الذين لا يمتلكونها.
يريد الاقتصاديون الجدد رؤية تغيير أكثر منهجيةً وديمومة. يريدون- على الأقل- تغيير طريقة عمل الرأسمالية. لكنهم، وبشكل أساسي، يريدون أن يبدأ هذا التغيير جزئياً فقط وأن تشرف عليه الدولة دون أن تسيطر عليه. يتصورون حدوث تحول يحدث بشكل عضوي تقريباً، مدفوعاً بالموظفين والمستهلكين، كنوع من ثورة لاعنفية تحدث ببطء.
والنتيجة كما يقول الاقتصاديون الجدد ستكون اقتصاداً يناسب المجتمع، وليس- كما هو الحال حالياً- مجتمعاً تابعاً للاقتصاد.
مع تعثر الليبرالية الجديدة، وعدم تمكن اليمين من طرح أفكار اقتصادية أخرى، كما يظهر سباق قيادة المحافظين حالياً، قد يكون للاقتصاد اليساري الجديد مستقبل طويل، سواء وصل حزب العمل بقيادة جون ماكدونيل وجيرمي كوربين إلى السلطة أم لا. وكما قالت تاتشر: يوجد الآن بديل.
في عام 2008 ، بدأ مركز Democracy Collaborative العمل في كليفلاند، وهي واحدة من أفقر المدن الأمريكية الكبرى، وكانت تفقد الوظائف والمقيمين منذ عقود. اتبع النشطاء استراتيجية ابتكرها الاقتصادي الأمريكي Gar Alperovitz تسمى “بناء الثروة المجتمعية”. وتهدف إلى إنهاء اعتماد الاقتصادات المحلية المتعثرة على العلاقات غير المتكافئة مع الشركات البعيدة التي تستهلك الأموال المحلية- مثل سلاسل المتاجر- وإلى إقامة هذه الاقتصادات حول شركات محلية أكثر وعياً اجتماعياً بدلاً من ذلك.
في كليفلاند، ساعدت Democracy Collaborative في تأسيس شركة لتوليد الطاقة الشمسية وشركة غسيل صناعي ومزرعة مائية في وسط المدينة لتنمية الخس والريحان. الشركات الثلاث جميعها كانت مملوكة من قبل موظفيها، وذهبت بعض أرباحها إلى شركة قابضة مكلفة بإنشاء المزيد من التعاونيات في المدينة. لقد نجحت الشركات الثلاث جميعها حتى الآن. تم تلخيص هدف المشروع بعبارات واضحة وشعبوية تقريباً من قبل أحد مؤسسي Democracy Collaborative، تيد هوارد ، في عام 2017: “أوقفوا تسرب الأموال من مجتمعنا”.
لكن استراتيجية “بناء الثروة المجتمعية” تتضمن هدفاً أكثر دقة: إنها دليل ملموس على أن القرارات الاقتصادية يمكن أن تستند إلى أكثر من المعايير الضيقة للنيوليبرالية.
هناك ثقة في الاقتصاديين الجدد، ويعتبر هذا مفاجأة بعد هزائم اليسار خلال الثمانينيات والتسعينيات. ولكن لأن الرأسمالية أقل فاعلية وشعبية مما كانت عليه آنذاك، يعتقد الاقتصاديون الجدد أنهم الآن يخوضون ما أطلق عليه المفكر الإيطالي الماركسي أنطونيو غرامشي- الذي كان له تأثير كبير عليهم وعلى ماكدونيل- حرب المواقع الثابتة War of position: أي التراكم المستمر للتحالفات، والأفكار والمصداقية العامة.
تعبير غرامشي يشير إلى تكتيكات اليسار في الأوقات الصعبة، أو خلال صعود “الثورة السلبية” بتعبيره، وهي “مرحلة تاريخية كاملة، ينبغي أن يعتبر فيها حرب المواقع وحرب المناورات أو الحركة مفهوما واحدا، حتى نصل إلى النقطة التي تتحول فيها حرب المواقع الثابتة مرة أخرى إلى حرب حركة؟. أي إنه في لحظة معينة من التطور التاريخي، سوف تحل حرب الحركة محل حرب المواقع، وعندئذ يمكن مرة أخرى، شن هجمات مباشرة على الدولة”.
ومع ذلك، فإن مشكلة اليسار المتمثلة في الوصول إلى إجماعٍ حول “رأسمالية مختلفة”، وإن كانت مؤقتة، هي أنها قد تمكن الرأسمالية من إعادة تجميع قواها، لتستأنف تقدمها الدارويني. يمكن القول إن هذا بالضبط ما حدث في بريطانيا خلال القرن الماضي. بعد الركود الاقتصادي المتفجر في ثلاثينيات القرن الماضي- التي أنذرت بالأزمة الرأسمالية الحالية- خلال سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، بدا أن العديد من قادة الأعمال يتقبلون الحاجة إلى اقتصاد أكثر مساواة ، وطوروا علاقات وثيقة مع سياسيي حزب العمال. ولكن بمجرد استقرار الاقتصاد والمجتمع ، وبدأ اليمينيون مثل تاتشر في تقديم حجج مغرية للعودة إلى الرأسمالية الخام ، تحول رجال الأعمال إلى جانبهم.
هناك صعوبة أخرى يواجهها الاقتصاديون الجدد وحلفاؤهم السياسيون وهي إقناع الناخبين- الذين تربوا على فكرة أن الربح والنمو هما النتائج الاقتصادية الوحيدة التي تهم- أن القيم الأخرى يجب أن تكون أكثر أهمية من الآن فصاعداً. حتى إنقاذ البيئة لا يزال أمراً صعبٌ إقناع الناخبين به. تعترف الباحثة كريستين بيري لصحيفة The Guardian بأن “تأثير النمو الاقتصادي على الكوكب ليس قضية تحدثنا عنها بشكل كافٍ تقريباً بين أطياف اليسار”. ووافق حليف ماكدونيل: “فيما يتعلق بتقليص النمو”- وهو المصطلح الحالي للتخلي عن النمو كهدف اقتصادي- “حزب العمل سيرفضه. إن تقليص النمو هو مجرد وصف مروع”.
هل لديكم بديل؟
لاحظ أحد الكتّاب الاقتصاديين وهو يقلب صفحات الجرائد والمجلات التي تعنى بشؤون الاقتصاد، “سيلا من المقالات منها ما ينعي “النيوليبرالية” أي الليبرالية الحديثة، ومنها من يرى فيها خلاصا لكوكبنا هذا الذي يتوقع أن يبلغ عدد سكانه نحو عشرة مليارات نسمة بحلول عام 2050. وهو يرى أن المكتبة الغربية مليئة اليوم بالكتب والأبحاث التي تدل على أن النمو الاقتصادي في الدول ذات النهج الليبرالي الحديث أخذت في التباطؤ، وإن كان هناك مؤشر للنمو فإنه نتيجة تراكم الثروات لدى طبقة لا تمثل إلا فئة قليلة جدا من السكان.
من هنا بدأ يتوقع بعض الاقتصاديين اندثار النهج الليبرالي بشكليه القديم والحديث، مؤكدين أن تدهور القوة الشرائية لأغلبية الناس، التي لا تقع في خانة الأغنياء في البلدان الرأسمالية في ربع القرن الأخير، يوجب البحث عن مسلك ونهج اقتصادي جديد.
ذلك أن السخط والحنق على الأنظمة السياسية أو الاقتصادية المستبدة لا ينسحب نهائياً، بزيادات معلومة في الأجور أو لقاءات مجاملاتية من أجل الحوار الاجتماعي بين أرباب العمل والنقابات، إنه سخط يتراكم وينتظر الفرصة السانحة للتعبير عنه، حراكاً واعتصاماً وهتافاً وحتى “لا مردودية” في العمل. فالاحتجاجات العمالية تؤشر على الديموقراطية المعيبة والفشل الدولوي في تدبير الملف الاجتماعي، ما دامت الشعارات المتعالية في العيد الأممي هي مطالبات سوسيو اقتصادية مرتبطة بالزيادة في الأجور ومقاومة الغلاء، والمطالبة بتوفير فرص الشغل وتخفيض الرسوم والضرائب، وتوفير الخدمات الصحية والاجتماعية.
وائل جمال الذي يعرف نفسه بأنه اشتراكي مصري وباحث وكاتب صحفي، يرى في مدونته الشخصية أن الواقعية الرأسمالية، في صيغتها النيوليبرالية، هي مناخ يشمل بأثره أوسع نطاق اجتماعي ممكن، ويلغي في الوقت ذاته كل بديل كسياسة غير واقعية. مناخ لا يشكل فقط إنتاج الفكر والثقافة ولكن أيضا تنظيم العمل والتعليم ويعمل كنوع من الحاجز الذي يعوق الفكر والحركة.
وبالطبع تتجاهل الواقعية النيوليبرالية حقيقة أن ما قامت به هي ذاتها من إعادة تشكيل للعالم كانت فكرة لا تخطر على بال. فمن كان يتخيل في الستينيات مثلا أن تحدث موجات الخصخصة العالمية لكافة مناحي الإنتاج والحياة على مدى العقود الماضية؟
وينقل عن الفيلسوف الفرنسي آلان باديو قوله إن “قادتنا وناشري الدعاية على علم تام بأن الرأسمالية الليبرالية، هو نظام غير منصف، وظالم، وغير مقبول للغالبية العظمى من البشرية.
كما يعلمون أيضا أن ديمقراطيتنا هي مجرد وهم: أين قوة الشعب؟ أين هي السلطة السياسية لفلاحي العالم الثالث، وللطبقة العاملة الأوروبية، وللفقراء في كل مكان؟
نحن نعيش في تناقض: واقع وحشي، لا مساواتي بشكل كبير، حيث يتم تقييم كل الوجود على أساس المال فقط، وتقديم ذلك كله على أنه المثال.
لم تقتصر المراجعات وعملية البحث عن اقتصاد بديل على الاقتصاديين، بل إن أهم أطر الاقتصاد البديل العامة التي تم تقديمها في السنوات الأخيرة كمحاولة لاستبدال النيوليبرالية أو تجاوز الرأسمالية استلهمت واستفادت من تحركات على الأرض قام بها منتجون ومستهلكون.
مثلا، بعد ثلاثة عقود شهدت إعادة هيكلة نيو ليبرالية عميقة للخدمات العامة في إطار خصخصتها وتوجيهها من منطلقات التراكم الرأسمالي والربح، بزغت تحركات عالمية قاعدية محلية تستعيد الخدمات العامة من يد القطاع الخاص في المياه والطاقة والرعاية الصحية. يرصد كتاب “التحول للعام في عالم مخصخص” من تحرير ديفيد ماكدونالد، هذه الحركة العالمية وبعض تجلياتها في جميع أركان الأرض.
يرصد الكتاب معارك بدائل مياه الشرب في كولومبيا، وتجارب جامعي القمامة في البرازيل والهند، والصحة العامة للسكان الأصليين في جواتيمالا، وحتى استعادة بنوك في تركيا وتجارب استعادة خدمات محلية للنطاق العام في بعض مدن ومحليات الولايات المتحدة معايير جديدة لتقييم الخدمات العامة تتضمن الحق الشامل في الحصول والوصول للخدمة العامة، السعر والجودة، والمساواة، والتضامن والكفاءة، والمحاسبة والمشاركة، والجوانب البيئية.
كل هذه معايير جديرة بالمقارنة بالمعايير النيوليبرالية التي تدعي التركيز على الكفاءة في مواجهة عجز الدولة المالي والإداري، لكنها تنتج في معظم الحالات استبعادا للفئات الأفقر، وارتفاعا في الأسعار، وتدهورا في الخدمة، وتعميقا للا مساواة بإخضاع الخدمة العامة لاعتبارات تراكم وأرباح الشركات الكبرى.
توماس بيكيتي نفسه، الذي يصف نفسه بأنه غير معاد للرأسمالية، يرى أن هناك طرقا تستطيع بها الديمقراطية استعادة السيطرة على الرأسمالية، وضمان أسبقية المصلحة العامة على المصالح الخاصة، وبأنه يسعى إلى وضع حدود تنظيم هذه “اليد الخفية” التي تحكم السوق.
هل كان هذا ما يقصده بوتين وهو “يشاغب” شركاءه في قمة العشرين، أم أن نبوءته تأتي في سياق بعيد عن نظريات الاقتصاد وتحولات الثقافة وتطور الإنسانية؟
أم مجرد “أجواء مساومة” على طاولات المفاوضات الصعبة، بكل أنواعها؟