الصحافة _ كندا
في خطوة لافتة تحمل أبعادًا استراتيجية أكثر من كونها مجرد برنامج عسكري اعتيادي، استقبلت الأكاديمية الملكية العسكرية بمكناس دفعة جديدة من ضباط الجيش الموريتاني، في سياق رحلة دراسية ممتدة من 13 إلى 20 يونيو 2025. هذا التحرك، الذي مر بهدوء في الإعلام الرسمي، لا يخلو من دلالات جيواستراتيجية عميقة، تعكس التحول النوعي في عقيدة المغرب الدفاعية، التي باتت تُبنى على التكوين الذكي والتغلغل الناعم بدل الاستعراضات الكلاسيكية.
المغرب لا يستقبل ضباطا موريتانيين للتدريب فقط، بل يزرع رؤية أمنية جديدة في النخب العسكرية لجيرانه، ويفرض من خلال الأكاديميات العسكرية، نموذجه في التفكير الأمني، القائم على المزج بين الصرامة العملياتية والانفتاح على التحولات التكنولوجية والمعرفية. لم يعد التعاون العسكري بين المغرب ومحيطه الجنوبي مقتصرا على تبادل الزيارات أو المناورات المشتركة، بل صار يحمل طابعًا تربويًا ناعمًا يسعى إلى توحيد العقليات القيادية وتوجيه بوصلة العقيدة الدفاعية الإفريقية نحو تصور مشترك للأمن، ينبني على محاربة التطرف العابر للحدود، والجريمة المنظمة، وتفكيك شبكات الاتجار والبؤر الرمادية التي تهدد استقرار الساحل والصحراء.
وإذا كان الظاهر هو رحلة دراسية لفوج عسكري موريتاني، فإن الباطن هو ترسيخ روابط غير قابلة للكسر بين القوات المسلحة الملكية ونظيرتها الموريتانية، في لحظة إقليمية مشحونة بالمخاطر والهشاشة. فموريتانيا، في سعيها لتحقيق توازن بين الضغوط الفرنسية والنفوذ الجزائري ومحاولات الاختراق القادمة من الجنوب، تجد في الرباط شريكًا أمنيًا عقلانيًا ومنفتحًا لا يبحث عن الهيمنة بل عن الاستقرار المشترك.
المغرب، الذي يستقبل هذه الدفعات منذ السبعينيات، لم يعد يكتفي بالتكوين التقني، بل بات يؤسس لعقيدة إقليمية غير معلنة، تقوم على التفاعل البشري العميق وتشكيل نخب عسكرية تتقاسم نفس المرجعية، وتفهم تحديات المنطقة من منظور موحد. وفي هذا السياق، فإن ما حدث في مكناس ليس مجرد تدريب، بل عملية دقيقة لصناعة الثقة الإستراتيجية، وتكريس مكانة المغرب كمرجعية عسكرية تربوية لجنوب المتوسط.
ولعل من أهم ما يميز هذا المسار أن المغرب لا يُضخّم من هذه الإنجازات ولا يحولها إلى بروباغندا، بل يعمل في صمت، وبثبات، على بناء منظومة تأثير حقيقية، تراكم علاقات الثقة، وتصنع نخباً وفية لرؤية مغربية واقعية، متبصرة، وتدريجية. لذلك فإن الجيش الموريتاني، بعودته المستمرة إلى المغرب، يختار عن وعي اصطفافًا دقيقًا في لحظة إقليمية مربكة، اختلطت فيها الحسابات وتراجعت فيها بعض الأدوار التقليدية.
ما يصنعه المغرب في مجال التكوين العسكري اليوم أخطر وأذكى من كل حملات التسليح والاستعراض. إنه ينسج شبكة تأثير ناعمة، تنمو في صمت، وتؤتي أُكلها على المدى المتوسط، دون ضجيج. هذه هي حرب العقول التي لا يُسمع فيها صوت الرصاص، بل يُبنى فيها الأمن من قاعات الدرس ومختبرات القيم والانضباط والنظرة المشتركة للمستقبل.