الصحافة ــ مراكش
مرت أكثر من خمسة قرون على دخول التصوف جنوب الصحراء الأفريقية، حيث اشتهرت الطرق التيجانية والقادرية والبرهانية والسمانية في القارة السمراء، وبلغ عدد مريديها الملايين، وكان المغرب -في الأغلب- بوابة التصوّف لجنوب الصحراء الكبرى.
واتسم التصوّف المغربي بقيم عصرية مميزة، ولعبت الزوايا الصوفية دورا مهما في بناء الدولة، وأضحت ساحة للتوعية والتربية الدينية؛ إذ تميز مريدو الزوايا المغاربة بطريقة خاصة في التربية والسلوك، ما جعل صيتهم يتجاوز حدود المملكة، ويمتد لبلدان جنوب الصحراء الأفريقية.
الزوايا المغربية
ظهرت الزوايا في المغرب بعد القرن الخامس الهجري إبان حكم يعقوب المنصور الموحدي، الذي بنى زاوية في مدينة مراكش، واعتنى ملوك المغرب بإنشاء الزوايا، مثل “دار الضيافة” التي بناها المرينيون، أو الزاوية العظمى التي أسسها أبو عنان فارس، خارج مدينة فاس، وكانت تسمى في فترة من فترات تاريخ المغرب “دار الكرامة”.
ولم ينقطع المتصوفة عن ممارستهم الحياة الاجتماعية العادية، وكانوا يسلكون طريق التذوق والارتقاء في مقامات أهل الطريق، وعدم المبالاة بظهور الكرامات أو حصول الشهرة، ويسعون إلى التستر على كراماتهم وأحوالهم.
وتنشط في المغرب عشرات الزوايا الصوفية، مثل الطريقة الشاذلية التي تنسب إلى أبي الحسن الشاذلي، وهناك الزاوية البودشيشية القادرية والزاوية الدلائية، وغيرها.
ويقول الباحث خالد الحاتمي إن الزوايا في المغرب لا تستهدف تدبير الشأن العام، وإن كانت لها أدوار اجتماعية وأخلاقية وتربوية.
ويضيف الحاتمي للجزيرة نت أن “دور الزوايا الأساسي يكون في تربية النفس، وبذلك تتطهر النفس من كل الكبائر والسلوك المشين، وبالتالي الاعتماد الكلي يكون على الأخلاق وهي رأسمال الزوايا”.
الحضور الروحي
وتشكل أفريقيا بالنسبة للمغرب امتدادا جغرافيا وتاريخيا، وكانت البلاد بمثابة حلقة وصل بين الشمال والجنوب، ومسارا لتجارة القوافل القديمة، كما أن الارتباط الثقافي والديني بالمغرب كان وثيقا وما يزال.
ويعتبر المذهب المالكي السائد في كثير من البلدان الأفريقية والطرق الصوفية على حد سواء، كما تتشابه العديد من العادات والمواسم والتقاليد في الزواج والمناسبات.
والحضور المغربي الديني والثقافي ظل متواصلا بأفريقيا جنوب الصحراء على طول المدى الزمني، الذي شهد بداية قيام الزاوية التيجانية هناك، ونشأتها وانتشار نفوذها في بلدان حوضي السنغال والنيجر وما وراءهما.
وإلى يومنا هذا، ما زالت الزاوية التيجانية محافظة على استمرارية الروابط التاريخية التي جمعت بين المغرب وبلدان “السودان الغربي”، عبر تاريخه الإسلامي، بالإضافة إلى الدور التاريخي الذي لعبته مدينة فاس كعاصمة دينية وعلمية، توافد عليها الأفارقة ليتتلمذوا على يد علماء القرويين.
والطريقة التيجانية طريقة صوفية سنية تنتسب إلى الشيخ أبي العباس أحمد التيجاني، ويسمى أتباعها “التيجانيين”، وتنتشر في عدة دول عربية وأفريقية، ويحج أتباعها إلى مدينة فاس المغربية -حيث يرقد مؤسسها- كل سنة لإحياء موسم الزاوية.
يقول الباحث المغربي محمد نعناعي إن بلاده منبع كثير من روافد التصوف عبر العالم وفي جنوب الصحراء الأفريقية.
ولم تكن العوامل الطبيعية القاسية للصحراء، ولا وعورة المسالك الرملية، ولا طول الطريق بين المغرب وبلاد السودان الغربي؛ كافية لكبح روابط التواصل المختلفة بين سكان المنطقة، مما أسهم في خلق لحمة اجتماعية انصهر فيها العرب والأمازيغ والزنوج، خاصة في المناطق الصحراوية.
ويضيف نعناعي للجزيرة نت أن دور المغرب في التصوف بدول جنوب الصحراء لا يزال مستمرا، ويتجلى مثلا في ذلك الارتباط التاريخي بين الزاوية التيجانية التي لا يزال أتباعها مرتبطين روحيا بمركزها بفاس، حيث يفدون إليها كل سنة، خاصة من السنغال.
ثقافة مغربية أفريقية
وتشكل الثقافة المغربية الدينية رافدا مساهما للثقافة الأفريقية، ويُسجل بدايات هذا التأثير مع وصول أول معلم مغربي إلى الصحراء في القرن الخامس الهجري، هو عبد الله بن ياسين الجزولي القادم من بلاد سوس (جنوب غربي المغرب)، ويؤرخ بمقدمه ميلاد حركة المرابطين، التي توسعت في المنطقة وامتدت إلى الأندلس، وأسهمت في نشر الإسلام السني المالكي الأشعري داخل عدة مناطق أفريقية.
وحديثا، عمل المغرب على إنشاء معهد للأئمة والمرشدين والمرشدات، مما أسهم في ترسيخ المذهب المالكي. وكذلك ما تقوم به مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، عبر ما تضطلع به من أنشطة علمية متنوعة تجمع العلماء من أفريقيا والمغرب.
والاهتمام الرسمي بالزوايا الصوفية سياسة ينتهجها المغرب منذ عقود، خاصة أن منهج هذه الزوايا يتماشى مع الإسلام الرسمي الذي يعتمده المغرب، ويعتبرها حاضنة شعبية لآلاف المواطنين، إلى جانب دورها الديني المؤسسي.
ويمكن من ملاحظة مظاهر حياة المغاربة وملابسهم، وحتى نغماتهم الموسيقية في مظهرها النغمي والإيقاعي والآلاتي؛ استكشاف العديد من مظاهر الأصول الأفريقية التي توحي بتقارب في جوانب اللغة أو الموسيقى أو الفن أو اللباس أو العمارة، مما يشير إلى تمازج حضاري بين المغرب وبلدان أفريقيا الغربية يشبه في حاضره ماضيه العريق.
المصدر: (الجزيرة)