بقلم: محمد بوبكري
تعيش الجزائر اليوم في حالة عطب، حيث تسود صراعات محتدمة بين مختلف أجنحة الجنرالات المتحكمين فيها. وتخترق هذه الصراعات مختلف “القطاعات الحكومية”، بما في ذلك “رئاسة الدولة”، ولا توجد مؤسسة قادرة على اتخاذ أي قرار خارج إرادة الجنرالات؛ فالرئيس يظهر ويختفي حسب مشيئتهم، والبرلمان والقضاء مؤسستان معطلتان، حيث بات وجودهما كعدمه. وكلما خطر لـ “الرئيس” أن يتكلم، فإنه يفعل ذلك عبر “تويتر”. أضف إلى ذلك أن خطوط التواصل بينه وبين “رئيس حكومته” مقطوعة، حيث لا يكلم هذا الأخير “رئيسه”… ولا يتدخل الجنرالات لوضع حد لهذه الوضعية.
ثم إن الجنرالات قد قتلوا الأحزاب وتنظيمات المجتمع الأخرى، حيث اخترقوها عبر زرع أذنابهم في شرايينها، وتمكنوا من خنقها من الداخل حتى أصبحت تابعة لهم يفعلون فيها وبها ما يشاؤون، بل إنهم حولوها إلى منشفة يمسحون في زعاماتها فسادهم وجرائمهم، حيث كلما احتد الصراع بين السلطة والمجتمع، لجأوا إلى اعتقال زعماء الأحزاب التقليدية التابعة لهم، وما يزال بعض هؤلاء في السجن إلى اليوم بسبب تهم الفساد الموجهة إليهم، الأمر الذي تسبب في انقراض هذه الأحزاب من الساحة السياسية الجزائرية. فضلا عن ذلك، فإن الطبقة السياسية الجزائرية الحالية هي في أغلبيتها انتهازية لا تهمها إلا الاستفادة من ريع المؤسسات التي يصنعها الجنرالات، الأمر الذي قد ينتهي بهم في السجن مستقبلا. ويدل هذا وغيره على أن الدم لا يسري في شرايين الدولة، ما يفسر توقف أعضائها عن الاشتغال، وأن الجزائر في حالة عطب، الأمر الذي يوفر الشروط لانهيار السلطة والبلاد…
وتدل قوة الحراك الشعبي السلمي وسعة انتشاره على أن الشعب الجزائري يريد تغيير النظام السياسي. وهذا ما أرعب الجنرالات الذين اعتقدوا أن هذا الحراك قد انتهى مع “الجنرال القايد صالح”. لكن هبته القوية اليوم تؤكد خطأ استنتاجهم، حيث تأكد أن مناورات “القايد صالح” وظروف الحجر الصحي التي فرضتها جائحة “كورونا”، قد جعلت الحراك يتحول إلى نار تحت الرماد انفجرت في وجه الجنرالات عندما اقتضت إرادة الشعب ذلك. لذلك، فلا تغيير بدون إرادة الشعب، والحراك السلمي يعبر عن هذه الإرادة.
لقد أبهر الحراك الشعبي الجزائري السلمي العالم، لأنه يعكس السلوك الحضاري لهذا الشعب الشقيق الذي حظي بمساندة العالم بأجمعه، حيث نددت الأمم المتحدة بعنف الجنرالات ضده، وحذرتهم من مغبة الاستمرار في ممارسته ضد حركة تروم الباء الديمقراطي بأسلوب سلمي حضاري، ما جعل كلا من الجهات الأمنية الفرنسية والجزائرية تنصحان الجنرالات بتأجيل الانتخابات المزمع تنظيمها في شهر يونيو المقبل. وقد عللتا نصيحتهما بأن كل المؤشرات الحالية تدل على أن الحراك سيزداد قوة لا يمكن لإمكانيات أجهزة الأمن الجزائرية أن تحتويها. كما خلصت الأجهزة الأمنية الفرنسية والجزائرية إلى أن هذا الحراك قد يؤدي إلى إلغاء الانتخابات ضدا على إرادة الجنرالات، الأمر الذي قد يعجل برحيلهم، كما قد يشكل كارثة على الكيان الجزائري…
ويؤكد خبراء جزائريون أنه لا يمكن للجنرالات أن يوظفوا الجنود ضد الحراك. وإذا فعلوا ذلك، فإن الجنود سيصوبون أسلحتهم في وجه الجنرالات، لأن هناك هوة كبيرة بين الجنود والجنرالات، حيث إن الجنود يعون ألا علاقة تجمعهم بالجنرالات، بل إنهم يدركون أنهم أبناء الشعب، يعانون من ضائقة العيش كما هو حال الشعب الجزائري… وقد سبق لبعض رجال الشرطة أن رفضوا ممارسة العنف ضد الحراك الشعبي، وعيا منهم بأنهم من أبناء هذا الشعب الذي يتظاهر من أجل حقوق الجزائريين جميعا، بمن فيهم الشرطة… ومن المحتمل جدا أن تكون مستقبلا تمردات أخرى ضد الأوامر الدموية للجنرالات.
هكذا، فإن الجنرالات لا يدركون أن الجزائر غنية بخيراتها، وأنهم أفقروها إلى أن صارت عاجزة عن اقتناء اللقاح المضاد لجائحة “كورونا”، فأصبحوا يتسولون دوليا من أجل الحصول على هذا اللقاح مجانا. ويبدو لي أنهم لا يريدن اقتناءه، لأنهم يرغبون في توظيف الوباء لتمديد فترة الحجر الصحي من جديد، فيتسنى لهم توقيف الحراك الشعبي. لكن هذا المبرر لن يقتنع به أحد محليا ولا دوليا، لأن الجزائر بلد غني يصدر المحروقات، والحراك مستمر حتى تغيير نظام العسكر.
ورغم أن الجزائر بلد مصدر للبترول والغاز، فإن ملايين العاطلين عن العمل يوجدون فيه اليوم. كما أنه يتوفر على عشرات ملايين الهكتارات التي يمكن استصلاحها زراعيا، لكن سياسة “هواري بومدين” وورثته لم يفعلوا شيئا من ذلك، بل إنهم خربوا ما كانت تمتلكه الجزائر من ضيعات وحقول، فباتت الجزائر بدون أي قدرة على إنتاج ما تحتاج إليه من مواد غذائية… وهذا ما يؤكد أن الجنرالات لم يكن لهم أبدا، وليس لهم، اليوم أي مشروع تنموي، حيث نجد أن الولايات المتحدة وأستراليا والصين، على سبيل المثال، قد استطاعتا استغلال صحاريهما وتحويلها إلى أراض زراعية. فلماذا لم يقم جنرالات الجزائر بأي شيء من ذلك، رغم أن للجزائر عائدات البترول والغاز، أم أنهم نهبوا خيرات البلاد وهربوها وتركوا خزينتها فارغة؟ وهذا ما يؤكد أن الفرق بين جنرالات الجزائر وحكام البلدان الأخرى هو فرق فكري وثقافي، لأن عقل العسكر لا يعرف للإنتاج سبيلا، وإنما يتقن ممارسة الاستبداد والنهب، لأنه ينهض على ثقافة العنف والتقتيل. وفي مقابل ذلك، نجد أن عقل حكام البلدان السلفة الذكر ينهض على العلم والانفتاح والإنتاج….
وإذا كانت مساحة الجزائر شاسعة، فإن الأغلبية الساحقة من الجزائريين لا يمتلكون سكنا فيها، رغم أن البلاد تتوفر على مؤهلات لإنتاج مواد البناء… فوق ذلك، تصنف الجزائر اليوم سادس أكبر مستورد للأسلحة، ما يعني أن الجنرالات ينفقون جبالا من الملايير من أجل التسلح بهدف الاستقواء على جيرانهم بغية التوسع على حسابهم. كما أن تورطهم في دعم “البوليساريو” يكلفهم ملايير طائلة.. وإذا أضفنا إلى ذلك ما تمارسه عصابة الجنرالات من نهب لأموال الجزائريين، فإن كل هذا يوضح الشروط التي أدت إلى تجويع الجزائريين وتفقيرهم وإهمالهم وإقصائهم من قبل العصابة الحاكمة…
ونظرا لقوة الحراك، فإن الجنرالات يسعون دائما إلى تفسير تصاعده ضدهم بوجود تدخلات خارجية وراءه، ما يرفضه الشعب الجزائري الذي يرى أن بحث الجنرالات عن خصومة مع المغرب يعد مؤامرة ضد الحراك، حيث أصبح كل رموز الحراك يدركون أن الخصومة مع المغرب لا تعني الشعب الجزائري في شيء، بل إنهم مقتنعون بأن الشعبين الجزائري والمغربي شقيقان، وأنهما شعب واحد في بلدين جارين. لذلك، فإن ورقة نظرية المؤامرة لن تفيد الجنرالات في شيء، حيث إن الحراك مستمر، ويمتلك إرادة الاستمرار والتوسع زمانا ومكانا، لأن الشعب الجزائري يعي أنه بقدر ما يشتد الحراك بقدر ما يشتد الخناق على عصابة الجنرالات. لذلك، فإن الجنرالات لا يفهمون أن الظروف تغيرت، وأن الشعب الجزائر قد تغير…
لقد صار رموز الحراك يعون أن نهاية الكيان الجزائري تكمن في استمرار النظام العسكري الذي من المحتمل جدا أن يحول الجزائر إلى سورية ثانية، لأن تلك هؤلاء الرموز تعي أن اليأس يؤدي إلى الكارثة، وأن استمرار الجنرالات في عنادهم قد يأتي على الكيان الجزائري. فالشعب الجزائري يريد الاستقلال عن استعمار الجنرالات عبر تقرير مصيره، لكن الجنرالات يرفضون ذلك، ما يكشف زيف ادعاءاتهم بأنهم يتبنون مبدأ “تقرير مصير الشعوب”…!! فهم يدعون ذلك سعيا لـ ” تقرير مصير” ما يتوهمون أنه “الصحراء الغربية” من أجل انفصالها عن وطنها الشرعي المغرب، وبعد ذلك يقومون باحتلالها وضمها إليهم، ما يعريهم، ويكشف تضليلهم وبهتانهم ونزعتهم التوسعية…