بقلم: مصطفى الفن
في الـ22 من مارس الماضي، عين الملك محمد السادس السيد محمد عبد النباوي رئيسا أول لمحكمة النقض..
وبهذه الصفة، تم تعيين الرجل أيضا رئيسا منتدبا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي يرأسه جلالته شخصيا..
وما بين 22 مارس الماضي و22 يناير الجاري، تلك 10 أشهر كاملة قضاها السيد عبد النباوي على رأس هذه المؤسسة ذات الحساسية الخاصة..
وظني أن 10 أشهر هي مدة كافية وتسمح ربما بإعطاء صورة تقريبية حول اتجاه “المنحنى” وحول الخطوط العريضة لحصيلة هذه المدة الزمنية..
أو دعوني أقول بصيغة أخرى أكثر وضوحا في شكل تساؤل:
هل “منحنى” هذه الحصيلة يتجه نحو ما هو سلبي أم أن “منحنى” الحصيلة يبقى إيجابيا في كل الأحوال؟
لكن قبل ذلك، أرى من الضروري أن أطرح أيضا بعض الأسئلة التي قد تكون ربما أهم من سؤال وجهة المنحنى..
وهي أسئلة أطرحها بهذا التسلسل:
ما هو الأقوم للسلطة القضائية لتعزيز استقلاليتها؟
فهل ينبغي أن تشتغل السلطة القضائية برأسين أم أنها ينبغي أن تشتغل برأس واحد هو المسؤول أمام الملك وأمام المغاربة عن تنزيل السياسة الجنائية للبلد؟
وهل تتجه منظومة العدالة بالبلد نحو تجسيد “استقلالية” فعلية للسلطة القضائية؟
أم أن الأمر لا يعدو أن يكون “استقلالا” بالسلطة القضائية بعد واقعة “انفصال” النيابة العامة عن وزارة العدل؟
أقول هذا ولو أن المجلس يشتغل الآن بهاجس لافت وهو انتظار التنصيب الملكي للقضاة المنتخبين..
أغلق هذا القوس ثم أعود إلى من حيث بدأت وهو استقراء وجهة “المنحنى”..
واستقراء هذه الوجهة يفرض أن نعترف ابتداء بأن التحديات التي تواجه السيد عبد النباوي وفريق عمله هي تحديات كبيرة وبطول الجبال أيضا..
نعم إن الأمر بكل هذا الثفل خاصة إذا انضاف، إلى هذه التحديات، “ثابت” آخر كاد أن يعلن عن نفسه بهذا البعد الرمزي:
“أنا أنتظر والمواطنون ينتظرون..”..
وطبيعي أن تكون الانتظارات بهذا السقف، لأن الأمر يتعلق بحقل سيادي هو أساس الحكم وأساس الملك..
وهو أيضا حقل لا يمكن أن تصلح أحوال البلاد والعباد إلا بإصلاح “الأعطاب” التي تطاله..
وهذه كلها انشغالات كانت ربما حاضرة في تلك التعيينات التي عرفتها مؤسسة القضاء ببلادنا قبل 10 أشهر..
كما أن الأصل في كل مرافق المؤسسة القضائية هو أن تكون مثل “دار أبي سفيان”..
ومن دخل “دار أبي سفيان” فهو آمن ما دام القضاء هو الملاذ الأخير للجميع..
كما ينبغي الاعتراف أيضا بأن بلدنا قطع أشواطا هامة في معركة تنزيل البنيات التحتية القانونية والمؤسساتية الضرورية في مسار أي دولة تنتمي إلى عصرها وإلى القرن 21..
وليس هذا فحسب، ذلك أن قضية استقلالية القضاء بالبلد لم تعد ربما اليوم قضية انعدام أو تواضع ترسانة قانونية أو مؤسساتية..
قضية “استقلالية” القضاء بالبلد أضحت اليوم مطروحة على “الضمير المسؤول” للقاضي في المقام الأول..
وهذا مكسب مهم وهام أيضا..
كما أن وجهة “المنحنى” تفرض أيضا أن نعترف بأن مجهودات كبيرة بذلت خلال هذه “ال10 أشهر” الأخيرة من “استقلال” السلطة القضائية..
وهي مجهودات جدية وتتحدث عن نفسها بنفسها دون أن يعني هذا أنه ليست هناك ملاحظات أو مؤاخذات حول مظاهر النقص والضعف..
ولعل أقوى هذه المجهودات المبذولة هي تلك الكيفية التي دارت بها عجلة العملية الانتخابية الخاصة بقضاة المجلس الأعلى للسلطة القضائية ..
والواقع أن عجلة هذا الاستحقاق الانتخابي دارت بأفق محوري عنوانه هو ضخ أكبر قدر ممكن من الشفافية في بنية هذا المجلس..
وبالفعل، فليس سهلا أن يضطر أكثر من 20 قاضيا إلى سحب ترشيحاتهم من سباق هذا الاستحقاق بدافع “أخلاقي” صرف وفي صمت أيضا..
وهذا “الحدث”، الذي يشبه “العلاج بالصدمة” والذي مر بالسلاسة اللازمة، يعد لوحده “زالزالا” غير عادي في تاريخ هذه المؤسسة..
كما علينا ألا ننسى أيضا أن المقتضى الدستوري، الذي يربط المسؤولية بالمحاسبة، حضر بقوة خلال هذه “ال10 أشهر” الأخيرة من “استقلال” السلطة القضائية..
وهذا معناه أن القاضي هو الذي أصبح ربما مطالبا بأن يمنح اليوم “الحصانة” لنفسه دونما حاجة إلى البحث عنها لدى ناس “الفوق” أو ناس “التحت”..
وتبقى “أم الحصانات” هي تلك التي تمر بالضرورة عبر التقيد بالقانون وبالدستور وباحترام الأخلاقيات وبالمثل العليا الناظمة لعمل القاضي..
أكثر من هذا، لم يعد سرا اليوم أن المجلس ذهب بعيدا في تفعيل مسطرة التأديب ومعها مسطرة التفتيش أيضا..
بل إن لجان التفتيش، بمسؤوليها الكبار ومفتشها العام شخصيا، نزلت في أكثر من محكمة بالمملكة وفي الدار البيضاء تحديدا..
حدث هذا في سياق “التفاعل” الميداني مع شكايات وتظلمات المتقاضين من الناس..
وهذه كلها عوامل تدعو ربما إلى الاطمئنان طالما أن “الثابت” في “الحكم” بين الناس هو أن يكون بالهيبة وليس بالسلطة..
لكن هل وصلنا إلى “سدرة المنتهى” في مسار إصلاح منظومة العدالة بالبلد؟
أكيد لا..
إذ مازالت أمامنا أشواط أخرى لم نقطعها بعد..
ولا يقول بعكس هذا إلا من سفه نفسه..
لماذا؟
لأن عملية الإصلاح عملية معقدة وتحتاج إلى عنصر الزمن وإلى صبر أيوب ومعه صبر الكثير من الأجيال..
كما أن عملية الإصلاح لا يسأل عنها الأشخاص مهما حسنت نواياهم..
عملية الإصلاح تسأل عنها مؤسسات التنشئة الاجتماعية والثقافية أيضا..
ومع ذلك، فمسافة “الألف ميل” تبدأ بالخطوة الأولى..
والخوف كل الخوف هو أن “تتعثر” مسيرة الإصلاح في منتصف هذا الطريق الطويل والشاق جدا جدا..