الصحافة _ كندا
الخطاب الذي وجهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، مساء يوم الثلاثاء 29 يوليوز 2025، بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش، لم يكن مجرد مناسبة بروتوكولية لتجديد البيعة، بل لحظة فارقة في تأطير المرحلة القادمة، ومرآة صريحة للإرادة الملكية العليا في توجيه بوصلة السياسات العمومية نحو أولويات اجتماعية وتنموية أكثر عدلاً ومردودية.
إن دعوة الملك إلى اعتماد تدبير استباقي ومستدام للموارد الطبيعية، خصوصًا في ما يتعلق بالندرة المائية، وإلى تفعيل مشاريع التأهيل الترابي المندمج، وتجاوز “مغرب بسرعتين”، تؤشر على إدراك عميق لمحدودية السياسات السابقة، وتفتح الأفق أمام تحول بنيوي في منطق إعداد وتنفيذ الميزانيات والسياسات القطاعية. لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل تملك النخب الحالية نفس إرادة رأس الدولة؟
في الحقيقة، لا يمكن فصل الخطاب الملكي عن الواقع القائم، ولا يمكن تفعيل مضامينه دون مساءلة مباشرة للفاعلين الذين أداروا طيلة السنوات الماضية ملف العالم القروي، وصناديق الدعم، وبرامج محاربة الفوارق المجالية، ومخططات الدعم الاستعجالي للفلاحين والكسابة. فالعديد من هذه البرامج، رغم كلفتها الضخمة، لم تُفضِ إلى تغيير حقيقي في أوضاع المغرب العميق، الذي ما يزال يرزح تحت وطأة العزلة، والهشاشة، وغياب الخدمات الأساسية.
وهنا تُطرح، من منظور علم السياسة وتدبير الشأن العام، إشكالية مركزية: هل يمكن تحقيق أهداف جديدة بأدوات قديمة؟ وهل يُعقل أن ننتظر نتائج مختلفة من نفس البُنى الإدارية والمنتخبة التي كانت، بشكل مباشر أو غير مباشر، مسؤولة عن فشل المراحل السابقة؟
لقد أصبح واضحًا أن الإصلاح لا يمكن أن يظل محصورًا في الوثائق المرجعية والنصوص الدستورية، بل لا بد له من حوامل بشرية جديدة، تتملك روح المرحلة، وتؤمن بضرورة القطيعة مع منطق التدبير التقليدي، وتنتصر لمنطق النجاعة والمساءلة والمردودية.
إن مفارقة الوضع الحالي تكمن في كون رأس الدولة يُعبّر عن إرادة واضحة للإصلاح، لكن هذه الإرادة تصطدم ببيروقراطيات مسترخية، ونخب تقليدية، ومؤسسات تمثيلية تفتقر، في كثير من الحالات، إلى الكفاءة والمصداقية. وهو ما يفرز نوعًا من “التنافر المؤسساتي” الذي يحول دون تنزيل التوجيهات الملكية إلى سياسات عمومية ناجعة.
فلا يمكن، على سبيل المثال، بلوغ أهداف العدالة المجالية والمائية والاجتماعية، كما عبّر عنها جلالة الملك، في ظل استمرار نفس أنماط تدبير العمال والولاة، ونفس منطق انتقاء رؤساء الجهات والجماعات، بل وحتى في ظل نفس تمثيلية البرلمان الذي يُفترض فيه أن يشرّع ويناقش ويصادق على الميزانيات التي ستعيد التوازن بين الجهات والفئات.
وعليه، فإن الخطاب الملكي، في عمقه، ليس مجرد توصيف لوضع أو دعوة تقنية لإصلاح قطاعي، بل هو نداء لإعادة هيكلة المشهد السياسي والإداري من أجل تمكين إرادة الإصلاح من أدواتها التنفيذية. فكل مشروع إصلاحي، لكي يُكتب له النجاح، يحتاج إلى ثلاثية متكاملة: رؤية، إرادة، وأدوات. والرؤية الملكية متوفرة، والإرادة العليا مؤكدة، لكن الأدوات ما تزال قاصرة عن مواكبة هذه الطموحات.
في الختام، إذا كنا نتفق جميعًا أن أصل الداء معروف، فإن شرط الشفاء يبدأ بإقرار قاطع بأن النخب الحالية، التي راكمت الفشل والإخفاقات، لا يمكن أن تُنتج واقعًا جديدًا. ولا يُغير الفريق الفائز، لكن الفريق الذي خسر معركة التنمية لسنوات، لا بد من تغييره إن أردنا فعلًا مراكمة مكتسبات جديدة.
فإرادة الملك وحدها لا تكفي، ما لم تواكبها نخب جديدة، بمشروعية جديدة، وبنَفَس مؤسساتي يُجسّد التحول المنتظر.