محمد السادس.. صانع المسيرة الثانية نحو حسم معركة الصحراء بالتنمية والدبلوماسية والسيادة

31 أكتوبر 2025
محمد السادس.. صانع المسيرة الثانية نحو حسم معركة الصحراء بالتنمية والدبلوماسية والسيادة

الصحافة _ كندا

تُمثل المسيرة الخضراء سنة 1975 لحظة مفصلية في تاريخ المغرب الحديث، إذ رسخت وحدة الوطن واسترجاع الأقاليم الجنوبية تحت القيادة التاريخية للملك الراحل الحسن الثاني، لكنها لم تكن سوى بداية لمسار طويل ومعقد سيقوده جيل جديد برؤية مختلفة.

فحين اعتلى الملك محمد السادس العرش، ورث ملفاً دبلوماسياً وسياسياً بالغ الحساسية، ظل لسنوات رهينة تجاذبات دولية وإقليمية معقدة، غير أنه نجح، خلال ربع قرن من الزمن، في تحويله من قضية نزاع مفتوح إلى نموذج متكامل لحلّ سياسي وتنموي يعترف به العالم كأحد أنجح التجارب في إفريقيا والعالم العربي.

لقد أدار الملك محمد السادس هذا الملف ببراغماتية هادئة وحكمة استراتيجية جعلت منه “المهندس الصامت” الذي أعاد رسم خريطة النفوذ والشرعية حول الصحراء المغربية.

فبينما انشغل الآخرون بالشعارات والخطابات، بنى الملك مسيرة جديدة موازية للمسيرة الخضراء، مسيرة مؤسساتية وتنموية ودبلوماسية، أسست لمرحلة لا رجعة فيها في تاريخ هذا الملف.

منذ بدايات حكمه، كان الملك يدرك أن الرهان في الصحراء لا يمكن أن يُكسب في الاجتماعات الأممية وحدها، بل في قدرة المغرب على بناء نموذج واقعي وناجح على الأرض. لذلك ربط الملك بين الدفاع عن السيادة الوطنية والتنمية الميدانية للأقاليم الجنوبية، فحوّل مدن العيون والداخلة والسمارة وبوجدور إلى أوراش مفتوحة، تستقطب الاستثمارات، وتحتضن مشاريع كبرى في الطاقة المتجددة والموانئ والصيد البحري والبنيات التحتية الحديثة.

إن هذه المقاربة الميدانية، القائمة على تنمية الإنسان والمجتمع، كانت في عمقها فعلًا سيادياً، يثبت للعالم أن مغربية الصحراء لا تُناقش لأنها تعاش يومياً على الأرض.

لكن الجانب التنموي لم يكن سوى جزء من رؤية ملكية شمولية أعادت توجيه الدبلوماسية المغربية. فبدل أن تبقى الدبلوماسية حبيسة الدفاع عن موقف أو تكرار حجج قانونية، جعل الملك منها أداة لصناعة الواقع وتغيير الموازين. لم تعد الرباط تتلقى المواقف، بل تصنعها. ولم تعد تتحرك بردّ الفعل، بل أصبحت تصوغ المبادرة. فكانت مبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب سنة 2007 بمثابة إعلان عن تحول جذري في فلسفة الحل. فالمقاربة لم تعد قائمة على الصراع، بل على البناء، وعلى تقديم حل واقعي يجمع بين احترام السيادة وضمان تدبير الجهة لشؤونها المحلية في إطار الوحدة الوطنية.

هذا التحول لم يكن تقنياً أو تفاوضياً فقط، بل كان فكرياً وحضارياً أيضاً، لأنه استند إلى مبدأ “الوحدة في التنوع”، وهو جوهر النموذج المغربي في تدبير المجال والإنسان. ومن خلاله، عرضت المملكة على المجتمع الدولي نموذجاً يحتذى في حل النزاعات على أساس التوافق لا الانقسام.

الدبلوماسية الملكية خلال العقدين الماضيين تميزت بعمق استراتيجي غير مسبوق، إذ نجح المغرب في تحويل قضيته الأولى من نزاع محلي إلى ملف أممي تُجمع فيه القوى الكبرى على مركزية الحل المغربي. وقد ساهم هذا النهج في جعل قرارات مجلس الأمن منذ 2007 تؤكد على أن مبادرة الحكم الذاتي هي الأساس الواقعي والوحيد القابل للتطبيق، وهو ما يُعدّ انتصاراً صريحاً للرؤية الملكية.

ولأن الملك محمد السادس أدرك مبكراً أن قضية الصحراء هي مرآة لمكانة المغرب في العالم، فقد ربط الدفاع عن الصحراء بضرورة استعادة الحضور المغربي في عمقه الإفريقي. لم تكن العودة إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017 مجرد خطوة رمزية، بل كانت عودة سياسية متقنة الحسابات، أعادت للمغرب موقعه الطبيعي كفاعل قارّي مؤثر.

ومن خلال هذه العودة، حوّل الملك المعركة من الكواليس إلى المؤسسات القارية، وبدأ المغرب يُفند بالبرهان كل الدعاية الانفصالية، ويفتح جسور التعاون مع الدول الإفريقية على قاعدة التنمية المشتركة والمصالح المتبادلة.

إن أكثر من خمسين زيارة ملكية إلى ثلاثين بلداً إفريقياً، وتوقيع أكثر من ألف اتفاقية تعاون، ليست مجرد أرقام، بل هي تعبير عن سياسة متكاملة جعلت من المغرب شريكاً استراتيجياً لإفريقيا، لا متحدثاً باسمها. وبهذه الدينامية، اكتسبت المملكة شرعية مضاعفة: شرعية الدفاع عن أرضها، وشرعية المساهمة في ازدهار القارة.

على المستوى الدولي، كانت دبلوماسية محمد السادس تتسم بالهدوء الفاعل والوضوح الحازم. فالعلاقات مع الحلفاء التقليديين كفرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة أعيدت صياغتها على أساس الندية والاحترام المتبادل.

ولم يعد المغرب يطلب الدعم، بل يفرضه عبر المصداقية التي بنى بها سياسته الخارجية. الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء سنة 2020 لم يكن منحة دبلوماسية، بل ثمرة تراكمات سياسية واقتصادية وأمنية جعلت واشنطن تدرك أن الرباط هي الشريك الأكثر استقراراً ومصداقية في المنطقة.

وفي المقابل، وسّع المغرب قاعدة شركائه ليشمل قوى جديدة في آسيا وأمريكا اللاتينية، حيث باتت مواقف البرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا تتجه تدريجياً نحو الاعتراف بالحل المغربي أو التعاطي الإيجابي معه. هذه النتيجة ليست نتاج صدفة، بل ثمرة استراتيجية ملكية طويلة المدى تنبني على تنويع الشراكات وتحصين القرار الوطني من أي تبعية.

في العمق، نجح الملك محمد السادس في تحويل قضية الصحراء إلى مقياس لسياسات المغرب الدولية. فقد أعلن بوضوح أن الصحراء هي “المنظار الذي يرى به المغرب العالم”، وبذلك جعل من موقف كل دولة من هذه القضية محدداً لطبيعة العلاقة معها.

إن هذا الوضوح، النادر في السياسة الدولية، جعل شركاء المغرب يضبطون بوصلتهم تبعاً لمدى احترامهم لوحدة المملكة، وهو ما انعكس على واقع ملموس: أكثر من 30 دولة فتحت قنصلياتها في مدينتي العيون والداخلة، وأكثر من 120 دولة تعلن اليوم، صراحة أو ضمنياً، دعمها للموقف المغربي.

لكن الإنجاز الأكبر ربما لا يقاس بعدد البيانات أو القرارات، بل بواقع الأرض. فالأقاليم الجنوبية اليوم أصبحت واجهة المغرب الحديثة نحو إفريقيا. ميناء الداخلة الأطلسي، وشبكات الطرق السريعة، ومشاريع الطاقة النظيفة، ومحطات تحلية المياه، كلها شواهد على أن التنمية ليست شعاراً بل مشروعاً سيادياً. لقد أصبحت الصحراء فضاءً للتكامل بين الأمن والتنمية، بين السيادة والانفتاح، بين التاريخ والمستقبل.

وفي المحصلة، فإن الملك محمد السادس لم يكتفِ باستكمال ملحمة استرجاع الأرض، بل صنع ملحمة بناء الشرعية وترسيخها. كانت استراتيجيته نسجاً دقيقاً بين الدبلوماسية والتنمية، بين الواقعية والطموح، بين الصمت الفاعل والحضور الذكي. وبذلك أعاد للقضية بعدها الحقيقي: ليست قضية نزاع، بل قصة نجاح دولة آمنت بعدالة قضيتها، وسارت نحو حسمها بثبات وهدوء.

لقد دخل المغرب عهد الحسم الهادئ، ونجح الملك محمد السادس في تحويل الصحراء من موضوع للمرافعة إلى نموذج للتنمية، ومن ملف عالق إلى مشروع وطني ناجح، ومن نقطة توتر إلى رافعة استقرار إقليمي، لتصبح المسيرة الثانية، مسيرة محمد السادس، تتويجاً للمسيرة الخضراء في أفق بناء مغرب واثق بنفسه، منفتح على العالم، ومتماسك بوحدته الوطنية.

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص المحتوى والإعلانات، وذلك لتوفير ميزات الشبكات الاجتماعية وتحليل الزيارات الواردة إلينا. إضافةً إلى ذلك، فنحن نشارك المعلومات حول استخدامك لموقعنا مع شركائنا من الشبكات الاجتماعية وشركاء الإعلانات وتحليل البيانات الذين يمكنهم إضافة هذه المعلومات إلى معلومات أخرى تقدمها لهم أو معلومات أخرى يحصلون عليها من استخدامك لخدماتهم.

اطّلع على التفاصيل اقرأ أكثر

موافق