الصحافة _ كندا
يبدو أن المغرب، بقيادة جلالة الملك محمد السادس، يواصل بخطى ثابتة ترسيخ موقعه كفاعل مستقل ومتوازن في الخريطة الج geo–سياسية العالمية، من خلال سياسة خارجية قائمة على البراغماتية الهادئة والاحترام المتبادل.
إن الاجتماع الثامن للجنة الحكومية المشتركة المغربية–الروسية، الذي ترأسه بموسكو وزير الخارجية ناصر بوريطة ونائب رئيس الحكومة الروسية ديميتري باتروشيف، لم يكن مجرد لقاء تقني لتوقيع اتفاقيات اقتصادية، بل إشارة دبلوماسية قوية إلى أن المغرب يشتغل بمنطق الدولة العريقة التي تعرف كيف تحافظ على توازناتها وسط عاصفة الاستقطاب الدولي.
ففي الوقت الذي تتعالى فيه أصوات الغرب ضد موسكو بسبب تداعيات الحرب الأوكرانية، يختار المغرب منهج الواقعية السياسية: لا قطع للجسور، ولا انحياز أعمى، بل تفعيل لمصالحه الوطنية العليا كما تراها المملكة، دون التفريط في ثوابتها أو تحالفاتها التقليدية.
وهذه هي مدرسة الدبلوماسية الملكية التي أثبتت، مرة تلو أخرى، أنها تضع سيادة القرار المغربي فوق كل اعتبار، سواء في الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أو في الحوار الاستراتيجي مع روسيا والصين وإفريقيا.
في موسكو، كان صوت بوريطة واضحًا:
المغرب منفتح على التعاون في الطاقة، والتعليم، والتجارة، والصيد البحري، لكنه في الوقت ذاته يتمسك بثوابته السيادية في قضية الصحراء المغربية، وهي الرسالة التي فهمتها روسيا جيدًا.
فحين قال بوريطة، خلال لقائه السابق مع سيرغي لافروف، إن “القانون الدولي لا يمكن أن يُؤوَّل لتعطيل الحل السياسي”، كان يُذكّر العالم، بلغة دبلوماسية صارمة، أن قضية الصحراء ليست ملفاً تجارياً بل قضية وجود وأمن واستقرار.
الاجتماع الأخير في موسكو أعاد تأكيد هذا المسار من خلال توقيع ثلاث اتفاقيات نوعية:
• اتفاق جديد حول الصيد البحري يُؤطر الوجود القانوني للسفن الروسية في المياه المغربية مع احترام السيادة المغربية الكاملة على مياهها الإقليمية.
• بروتوكول لتبادل المعلومات الجمركية، يعزز الشفافية في المبادلات التجارية ويضع حداً لأي تهريب أو تلاعب بالقيمة المضافة.
• اتفاق ثالث في إطار النظام الاقتصادي الأوراسي، يمنح المغرب منفذاً استراتيجياً نحو أسواق جديدة في آسيا الوسطى وشرق أوروبا.
لكن ما وراء التقنية، هناك سياسة خارجية متكاملة تُعيد صياغة مفهوم الشراكة:
فالمغرب اليوم لا يطلب “دعماً” من أحد، بل يُقدم نموذجاً للتعاون الندّي القائم على المنفعة المشتركة.
وفي المقابل، تدرك موسكو أن الرباط ليست مجرد بوابة لإفريقيا، بل صوت إفريقي معتدل له مصداقية ووزن في الملفات الإقليمية الحساسة، من الساحل إلى البحر الأبيض المتوسط.
إن المغرب يبرهن، عبر مثل هذه اللقاءات، على أنه لا يبيع مواقفه ولا يشتريها أحد.
فعلاقاته مع القوى الكبرى قائمة على الاحترام والسيادة المتبادلة، وليست رهينة لأي محور أو اصطفاف أيديولوجي.
من جهة أخرى، يشكل الحضور الروسي في الملفات الاقتصادية المغربية مكسبًا استراتيجياً، خصوصاً في مجالات الطاقة والصيد والتعليم، وهي قطاعات تعتبرها المملكة أساسية ضمن رؤيتها التنموية 2035.
وإذا كانت زيارة الملك محمد السادس إلى موسكو سنة 2016 قد فتحت صفحة جديدة في العلاقات الثنائية، فإن اجتماع 2025 جاء ليترجم عملياً تلك الرؤية الملكية البعيدة المدى، التي تقوم على بناء جسور الثقة عبر الاستمرارية، لا عبر الدعاية أو الانفعالات السياسية.
في عالم مضطرب تسوده الحسابات الصفرية والاصطفافات القسرية، يقدم المغرب نموذج الدولة التي تتقن فن التوازن دون التفريط في المبادئ.
يوقّع اتفاقيات مع روسيا، ويستقبل في الوقت ذاته الشركاء الغربيين، ويقود من موقع الثقة مبادرات إفريقية في المناخ، والطاقة، والتنمية المستدامة.
وهنا تتجلى العبقرية الدبلوماسية المغربية: القدرة على الجمع بين الصلابة في الثوابت والمرونة في الوسائل.
من الصحراء المغربية إلى موسكو، من واشنطن إلى داكار، يتحرك المغرب كفاعل مسؤول، لا كدولة تابعة.
إن ما يحدث في الكواليس الدبلوماسية اليوم ليس تفصيلاً عابراً، بل جزء من التحول العميق في ملامح القوة الهادئة للمملكة، تلك التي لا تُعلن انتصاراتها في البيانات، بل تُكرّسها في الميدان عبر اتفاقيات وشراكات تضع المغرب في قلب خريطة النفوذ الاقتصادي والسياسي للعالم الجديد.