بقلم: نجيب أقصببي*
هناك مستويان في تحليل أسباب الأزمة التي يعاني منها المرفق العمومي في المغرب: المستوى الأول وهو تحليل الأسباب العميقة التي تعود في الحقيقة إلى طبيعة الدولة، وعلاقتها بالمواطن، ومن جهة ثانية هناك مستوى آخر مرتبط بالظرفية، وبتسلسل الوضع.
المشكل في العمق يتعلق بطبيعة الدولة، وبصفة أدق بالعجز الديمقراطي للدولة، حيث أن الدولة غير مبنية على أسس ديمقراطية.
فماذا تعني الديمقراطية في هذا المجال؟ الديمقراطية هي التعاقد بين الدولة أو المنتخبين، وبصفة عامة بين السلطة والناخبين أي المواطنين. فلو أخذنا نماذج الدولة في أوروبا مثلا، أو في بعض البلدان الديمقراطية العريقة التي تطور داخلها مفهوم الدولة الراعية أو الحامية l’état providence/ l’état protecteur التي انبنت على تعاقد بين السلطة والمواطنين. فمن واجب المواطنين في هذا التعاقد تأدية الضرائب واحترام واجباتهم كمواطنين وملزمين وتغذية الدولة بالموارد التي تمنحها إمكانات. ولكن يقابل ذلك التزام الدولة بتوفير الخدمات العمومية والمرافق العمومية، حيث تبني مشروعيتها في جلب الضرائب بشكل غير مباشر عبر إرجاع تلك الضرائب على شكل خدمات عمومية ومرافق عمومية.
فالدولة في البلدان المتقدمة استطاعت خلال ما سمي بالثلاثينيات الذهبية، بناء مشروعيتها على مبادئ دولة الحق والقانون، على صناديق الاقتراع وعلى تعاقد واضح مع المواطنين.
ثانيا، استطاعت أن تفرض مستوى معين من المساهمة الضريبية، والتي تعد مرتفعة ومع ذلك لم يقابل ذلك باحتجاجات المواطنين، لماذا؟ لأنه يلاحظ يوميا «مقابل الضرائب» عبر خدمات عمومية، مرافق عمومية في المستوى (تغطية صحية كاملة، مدرسة عمومية مجانية ذات جودة عالية، طرق في المستوى، حدائق..).
فما الذي يحصل لدينا في المغرب؟ أولا نفتقد لدولة ديمقراطية، ولدولة الحق والقانون، والسلطة هاجسها الأول أمني، وطبعا هي بحاجة إلى موارد، حيث أنجزت الشطر الأول المتجلي في استخلاص الضرائب، دون أن تعيد جزء منها عبر خدمة عمومية أو مرافق عمومية، علما أن الخدمات والمرافق العمومية هي في صلب التعاقد بين الدولة والمواطن. فالمواطن لما يصوت على من يظن أنه يمتلك السلطة الحقيقية، فهو يصوت على برنامج في صلبه المرافق والخدمات العمومية، بغض النظر عن أي حزب أو أي شخص، والخلل يكمن في أن المواطن يصوت على منتخبين لا سلطة لديهم، أو ينحرفون عن ممارسة سلطتهم، لأنهم يعتقدون أن انتخابهم أو إعادة انتخابهم ليس متعلق بنتيجة صناديق الاقتراع. إذا ليس هناك تعاقد مبني على المسؤولية والمحاسبة والمساءلة، وهذا هو صلب المشكل في بلد كالمغرب.
أضف إلى ذلك ما يمكن أن نسميه بأزمة المالية العمومية. فالجميع يقر سواء كان في السلطة أو في المعارضة بأن النظام الضريبي غير مجدي وغير ناجع، وغير عادل، فهو عاجز عن تزويد الدولة بالموارد التي هي بحاجة إليها من أجل تلبية الحاجيات، وهو غير عادل لأنه يطبق على أغلبية من المقهورين ويستثني الأقلية من أصحاب الإمكانيات. اذا المواطن لما يكون أمام نظام ضريبي غير عادل، غير منصف، يحاول هو الآخر التملص منه، وهو ما يؤدي إلى تقلص الموارد، وتقليص إمكانيات الدولة يجعلها «تبرر» عدم تلبية الخدمات العمومية والمرافق العمومية بمحدودية الإمكانيات، وهو ما يدخلنا ضمن حلقة مفرغة، فالمواطن يؤدي الضرائب دون أن تعيدها إليه الدولة في شكل خدمات ومرافق عمومية، فهو يلجأ الى المصحات الخاصة في حالة المرض، ويقصد المؤسسات الخصوصية لتدريس أبنائه، كما أن الطرق حالتها متردية، وهو ما ينمي لديه الشعور بأنه له الحق في التملص من أداء الضريبة، وهذا هو عمق الأزمة التي تعاني منها المالية العمومية، فالدولة لم تتمكن من عقلنة استعمال المالية العمومية وخلقت جوا من التنافر وعدم الثقة مع المواطنين، وأتمنى ألاّ يفهم من تحليلي أنني أسعى إلى تبرير التملص من أداء الضريبة، فكيفما كان الوضع ينبغي على المواطنين الالتزام بأداء واجباتهم، ولكن المشكل في العمق هو مسؤولية الدولة.
*نجيب أقصبي: خبير إقتصادي.