بقلم: عبدالفتاح المنطري*
إنها ذكريات حية لا تنسى، محفورة في الذاكرة وتمتد إلى الزمن الثقافي والرياضي والصحفي الجميل والبعيد بشارع الصحافة المسمى شارع علال بن عبدالله وبعاصمة الصحافة الوطنية, مدينة الرباط ذات التاريخ العريق.
في هذا اليوم بالذات، جالست رجلا طيبا يعرفه الخاص والعام، عاصر الفترة الذهبية التي شهدت إنتاجا ثقافيا وصحفيا ورياضيا زخما بمدينة الرباط على وجه الخصوص إبان سنوات السبعينيات والثمانينيات إلى نهاية التسعينيات،ويتعلق الأمر هنا بالسيد إبراهيم فرحان النادل بمقهى “مبروكة” المتواجدة بشارع علال بن عبدالله في زاوية تقع أمام وكالة مصرف المغرب ومكتبة “خدمة الكتاب” التي تحول فرع منها إلى مقهى”لومبير” قرب مقر سابق لجريدتي “العلم” و”لوبينيون” ومكاتب جريدة “المساء والمجلس الثقافي البريطاني وعيادات طبية ومكاتب محاماة، وهي المقهى الشعبية التي قاومت الزمن وتقلباته،وظلت متمسكة بجودة القهوة والشاي المقدمين لزبنائها الأوفياء في بساطتهما وبأسعار في متناول الجميع وسط جو عائلي وإنساني مفعم بالعفوية والفكاهة تملؤه مؤانسات و”قفشات” تذكر للحظات الماضي الجميل والترحم على الموتى من رواد المقهى السابقين والسؤال عن الأحياء منهم ممن غلبهم المرض وأعيتهم العلل المزمنة وأتعبتهم رحى الحياة.
فأصحاب هذه المقهى يهمهم الحفاظ على الأصدقاء الزبناء ولا يفكرون بمنطق الجشع مثل العديد من ملاك المقاهي والمطاعم
هذه المقهى الأصيلة المعروفة عند كثير الصحفيين والمثقفين والفنانين وعند بعض الوزراء أيضا تشهد يوميا توافد أوفيائها من جلساء العمر الذين يربطون علاقات ود وعرفان مع مسيرها عبدالله الإدريسي الفزادي ومن قبله أخيه المرحوم سي سعيد الإدريسي الفزادي الذي وافته المنية وهو في متوسط العمر.
يذكر السيد إبراهيم فرحان العديد من زبناء مقهى “مبروكة” ممن يعرفهم عن قرب ويعرفونه عن قرب ويقدرونه تقديرا كبيرا مثلما يقدرهم هو أيضا تقديرا عظيما ويزوره بعض الأحياء منهم كلما مروا بجانب هذه المقهى الشعبية البسيطة ذات التاريخ الطويل.
من الأسماء التي يتذكر السيد إبراهيم أنها كانت تداوم على احتساء القهوة أو الشاي بمقهى “مبروكة”،محمد العربي المساري ومحمد الإدريسي القيطوني وعبدالجبار السحيمي (مدراء سابقون لجريدة العلم ولجريدة لوبينيون) رحمهم الله تعالى وأسكنهم فسيح جناته وخالد الجامعي (قيدوم الصحفيين ورئيس تحرير سابق ل”لوبينيون”) وعمر الدركولي ونجيب السالمي(صحفيان) وعبدالله البقالي (رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية) وحسن عبدالخالق ( الصحفي والسفير حاليا) ومصطفى الخلفي (الصحفي والوزير حاليا )وعبدالسلام بركة (محام) وعبداللطيف مفكر(صحفي بالتلفزة المغربية ) والمصور الصحفي عبدالمقصود وعبدالله الوزيرة عضو المجلس العلمي بالرباط وعبدالقادر وعبدالرزاق بدوي (مسرحيان) وفنان الملحون الحسين التولالي رحمه الله والصحفي الرياضي الحسين الحياني وطلحة جبريل (الصحفي السوداني المعروف ) والمرحوم الممثل المشهور محمد بنبراهيم والمطرب محمود الإدريسي،كما كان من زوار هذه المقهى أيضا المرحوم محمد بوزوبع و أعضاء من فرقته الموسيقية..هم مشاهير كثيرون لم يتذكرهم كلهم السيد فرحان، لكنه يثني عليهم جميعا لطيبوبتهم وتواضعهم وحسن تعاملهم رحمة الله على الأموات منهم وأطال أعمار من بقي منهم على قيد الحياة.
وفي ذات السياق، نشر الصحفي طلحة جبريل مقالة تحت عنوان :” شارع علال بن عبد الله في وسط الرباط.. هجره الصحافيون والهنود” بجريدة الشرق الأوسط الدولية” بتاريخ ثالث يونيو 2012″ العدد 12241،قال فيها :”في السبعينيات والثمانينيات كانت مكاتب صحف مثل «العلم» و«لوبنيون» و«الميثاق الوطني» و«المغرب» و«أنوال» و«لوماتان» و«المسيرة الخضراء»، يُضاف إليها مكاتب وكالة الأنباء الفرنسية و«تاس» السوفياتية و«إيفي» الإسبانية.. موجودة كلها في شارع علال بن عبد الله. ولاحقا، بعض هذه الصحف اندثر.. وبعضها رحل إلى مناطق أخرى.
الأمكنة بقيت كما هي لكن الزمان دار دورته البنايات هي البنايات في شارع علال بن عبد الله بالعاصمة المغربية الرباط. لكن أشياء كثيرة تغيرت في هذا الشارع الذي يتوسط المدينة في الماضي كان هو «شارع الصحافة.. والهنود». أما الآن فقد هجره الصحافيون والهنود، ووحده إبراهيم فرحان، نادل «مقهى مبروكة»… بقي في مكانه يتذكّر عندما يأتي إلى الشارع أحد الوجوه القديمة، يصرّ إبراهيم على دعوته ليتناول «مشروبا». ذلك أن إبراهيم يعرف جيدا وجوها كانت في هذا الشارع بعضها لصحافيين وأخرى لكتّاب، جميعهم كانوا من نجوم السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. بل أكثر من ذلك، يتذكّر إبراهيم ما كانوا يحتسون في هذا المقهى الصغير النظيف الذي يندلق منه الناس عادة نحو «الرباط العتيقة». فهو يعرف، مثلا، أن فلانا كان يحتسي «قهوة سوداء» والآخر «إسبريسو» والثالث «قهوة ممزوجة بالحليب» هي تلك التي يطلق عليها المغاربة مسمى «قهوة مهرسة»، والرابع «شاي أسود»، وخامس «شاي أخضر منعنع».
«شارع الصحافة» في الرباط أصبح الآن شارع ذكريات.. واتصالات. بيد أن إبراهيم هناك في «مبروكة» يتذكر كثيرين”. انتهى كلام طلحة وتذكرني هذه المقالة بزمن كانت فيه عادة القراءة قوية عند المغاربة خاصة لدى الشباب آنذاك أي إبان سنوات السبعينيات والثمانينيات إلى نهاية التسعينيات قبل انتشارعدوى النت وطغيان بلاء العولمة الإلكترونية بحلوها ومرها،بخيرها وبشرها، زمن كانت فيه دينامية القراءة قد بلغت أوجها بين أوساط الشباب المغربي عبر المتابعة اليومية والأسبوعية والشهرية للإصدارات الثقافية كسلسلة “عالم المعرفة” و”عالم الفكر” و”مجلة الأمة” وكتابها الشهير و”مجلة العربي” و”مجلة الوعي الإسلامي” ومجلة “المجتمع” وأسبوعية “الشراع” اللبنانية ومجلة “الوطن العربي” الباريسية و”المجلة” السعودية اللندنية و”سعودي غازيت” و”عرب تايمز” و كل المجلات والكتب الوافدة على بلادنا من لبنان والعراق ومن مصر والكويت وقطر ومن دول المهجر التي استقر بها الإعلام المهاجر طويلا لما بها من مناخ منفتح أكثر على الحريات الفردية والجماعية.ولأن الشيء بالشيء يذكر, كما تقول العرب والحديث ذو شجون أيضا مع الأحباب والأصدقاء، فإني أذكر أنني في عمر الزهور كنت مولعا بتصيد أخطاء الصحفيين والطباعين،وكانت الانطلاقة بمدينة القطب الاقتصادي الوطني وقلب ورئة البلاد،مدينة الدارالبيضاء،حيث نشأت وترعرعت ,لما كنت أستأجر أربع صحف يومية من الكشك القريب من منزلنا ب80 سنيتم، أي 20 سنتيم لكل جريدة على أن أردها لبائعها في مساء اليوم نفسه.وذات يوم، كنت أتصفح يومية “المحرر” التي كانت أشهر جريدة بالمغرب طوال السبعينيات،فوجدت أنهم قد أخطأوا في كتابة تاريخ “استشهاد” الزعيم عمر بن جلون على صدر الصفحة الأولى والذي يكرر كل يوم، فقمت بمراسلتهم عن سن لا يتجاوز 15 سنة،وقاموا بالفعل بتصحيحه ليصبح على الشكل التالي : 1975/12/18 وقد كان الشهر يسبق اليوم.
ولما كبرت واشتد عظمي،لاحظت أن يومية “الأشرق الوسط التي كنت أطالع أخبارها ومقالاتها كل يوم من أول صفحة إلى آخرها،كانت تنشر في عز شهر رمضان زاوية يومية تحت اسم “مع قهوة الصباح” يكتبها عادة آنذاك أشهر صحفييها الأديب جهاد الخازن، فقمت أيضا بإشعارهم من باب التذكير ليس إلا بأن الشهر شهر الصيام والجريدة موجهة أساسا للعرب والمسلمين، فقاموا على التو بتغيير اسم الزاوية إلى “مع قهوة الإفطار” وبقيت على تلك الحال في كل رمضان وتعود إلى اسمها العادي في سائر الشهور والأيام. لم يصلني أي شكر من هيئة التحرير،لأنهم عرب بطبعهم ربما وأنا أيضا عربي مثلهم, ولكن المدير العام السعودي لمجموعة الشرق الأوسط آنذاك وقد نسيت اسمه عبر لي عن شكره وحياني على فعلتي الحسنة أمام أنظار طلحة جبريل وبباب المعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، ووعدني بمنحي اشتراكا سنويا بالمجان بيومية “الشرق الأوسط”،لكنني لم أتوصل بشيء من ذلك منذ ذلك التاريخ.
أما جريدة “وول ستريت جورنال” الأمريكية العالمية فلي معها أيضا حكاية لما قابلت مدير مكتبها بباريس والذي جاء من أجل إنجاز تغطية صحفية حول الاقتصاد والإسلام بالمغرب.كنت أرافقه بتكليف شخصي من مدير الإعلام بوزارة الإعلام آنذاك محمد الصديق معنينو،حيث كنت ظله الذي لا يفارقه عند إجراء حوار مع وزيرالاقتصاد زمنئذ محمد السقاط داخل مكتبه, كما رافقته إلى منزل المرحوم العلامة محمد المكي الناصري الذي أكرمنا في ذلك اليوم و كان يجيبه باللغة الفرنسية وأساعده بدوري في الحوار مع ذلك الصحفي الأمريكي المسمى “ريفزن” في اختيار بعض المفردات بلغة العم سام. و عند ذهابنا إلى مطعم في اليوم الذي ستنتهي علاقتي المهنية به ،أخبرته بوجود خطأ غير مقصود بلائحة أسعار جريدته حسب البلدان، وأن المغرب كتب بشكل خاطئ، فنوه بشدة ملاحظتي وشكرني كما واعدني خيرا بأن يصلح الخطأ حال عودته إلى باريس وقد فعل ذلك، لأنه لا يحمل دما عربيا مثلي ,إذ لاحظت النسخ التي طبعت بعد ذلك, فوجدتها تحمل اسم المغرب مكتوبا بطريقة صحيحة.
وأخيرا حكايتي هذا الأسبوع والأسبوع الذي قبله مع متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر، إذ صادفت في طريقي وأنا مار بجانبه مثل العديد من زوار وسكان الرباط الذين لاحظوا ذلك، أن ترجمة إلى العربية لعلها من العم جوجل قد علقت على واجهة المبنى ولم تزح من مكانها إلى اليوم ولا هي عدلت أو مسحت رغم ما نشر عن ذلك بالصحف الإلكترونية.ولعل زوار وسكان الرباط قد لاحظوا الجملة المرصعة بلون وردي على واجهة متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر..ترجمة غريبة غير صائبة للجملة المعبر عنها بلغة العم سام حول المساواة بين الجنسين…الناس يمرون عليها يوميا ويقفون على باب المتحف مشدوهين من رؤية هذا التعبير الركيك الأسلوب.
هكذا جاءت :طالما استمر اتباع قواعدنا أهم من إتباع قلوبنا،سأكون نسوية.وكان بالأحرى، استشارة أفضل المترجمين بالبلاد بوكالة المغرب العربي للأنباء على بعد مرمى حجر من المتحف..مثال لصيغة اقترحتها على المتحف عبر صفحته بالفايس بوك، ولم يتفاعل معي أحد من مديري الصفحة سوى برؤية المنشور وهو كالتالي :”ما دمنا أو ما بقينا متشبثين بأنظمتنا (قواعدنا أو مساطرنا أو مبادئنا) أكثر من تعلقنا بأهوائنا أو باتباع قلوبنا أو أهوائنا ، سنظل نؤمن بمساواة الجنسين.أو بالمساواة بين الجنسين..فاللهم إني قد بلغت غيرة على لغة القرآن من أن تنتهك ويستهزأ بها وبواجهة المتحف.ويا ليت المسؤولين عن هذا المرفق العمومي وهذه المعلمة الفنية العظمى انتبهوا لمثل لحظات السهو هذه أو ربما سلوك اللامبالاة بمكانة الترجمة من لغة أجنبية إلى لغة الأمة وبوزن هذه الأخيرة في وجدان كل عربي ومسلم.
لغتنا يجب أن تظل دوما في الصون والأمان بنفس القدر الذي نعامل به اللغات الحية الوافدة علينا، فلا رفعة لأمة أهانت لغتها على حساب الرفع من قيمة لغة. أخرى.وللحديث بقية مع لغتنا الأم وسر تقدم أمتنا في العصور الزاهية التي مرت بها، يوم كان الطالب والباحث الإفرنجي يدرس العربية بجامعة القرويين(أقدم جامعة في العالم) وبجامعتي الزيتونة والأزهر وبجامع القيروان وجامع دمشق وبدور العلم ببغداد والحجاز ومصر والأندلس من أجل تدارس علوم الرياضيات والجبر والكيمياء والفلك والطب والهندسة والفلسفة وشتى علوم الأرض والحياة التي تدرس لأبنائنا اليوم بلغات أجنبية.
*كاتب صحافي