الصحافة _ بقلم: عبد الحكيم العياط
في إطار الاحتفال بالذكرى التاسعة والستين لتأسيس المديرية العامة للأمن الوطني، شهدت مدينة الجديدة في السادس عشر من ماي 2025 انطلاق فعاليات الدورة السادسة لأيام الأبواب المفتوحة التي تنظمها المديرية العامة للأمن الوطني تحت شعار “فخورون بخدمة أمة عريقة وعرش مجيد”. وتستمر هذه التظاهرة الوطنية المفتوحة في وجه العموم إلى غاية الحادي والعشرين من الشهر نفسه، بمركز المعارض محمد السادس، حيث تحولت المدينة خلال هذه الأيام إلى قبلة لآلاف الزوار من مختلف الفئات العمرية والمهنية، في مشهد يجسد الانفتاح المؤسسي الذي أصبح يميز عمل الأمن الوطني في السنوات الأخيرة.
تميز حفل الافتتاح بحضور شخصيات وطنية ودولية بارزة، من بينها وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت، والمدير العام للأمن الوطني ومراقبة التراب الوطني عبد اللطيف حموشي، بالإضافة إلى رئيس المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الإنتربول) أحمد ناصر الريسي، والأمين العام لمجلس وزراء الداخلية العرب محمد بن علي كومان، ورئيس جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية عبد المجيد بن عبد الله البنيان .
منذ لحظة دخولي إلى فضاء المعرض في يومه الثاني، كان لافتًا ذلك الإقبال الجماهيري الكبير والتنظيم المحكم الذي يضمن تدفق الزوار بسلاسة. ما أثار انتباهي بشكل خاص هو تلك المساحة الكبيرة المخصصة للعروض الميدانية، والتي قدمت فيها وحدات الشرطة بمختلف تخصصاتها عروضًا تطبيقية تحاكي التدخلات الأمنية في حالات الجريمة أو الكوارث. وقد شاركت شخصيًا في الورشات التفاعلية التي أقيمت داخل رواق خاص بالتحسيس والتربية على السلامة الطرقية، حيث تمكن الأطفال من قيادة سيارات صغيرة وسط ممرات مرورية تحاكي الواقع، في مبادرة تثقيفية لا تخلو من المتعة.
في رواق الشرطة العلمية والتقنية، تم عرض أحدث التقنيات المستخدمة في تحليل الحمض النووي، مما يعكس التطور الملحوظ في هذا المجال. فقد توصل المختبر الوطني للشرطة العلمية والتقنية بالدار البيضاء خلال السنة الجارية بـ21,859 طلب خبرة علمية، من بينها 17,557 طلب تحليل ومطابقة لعينات الحمض النووي، بزيادة ناهزت 7.5% مقارنة مع السنة المنصرمة . هذا التطور يعكس التزام المديرية العامة للأمن الوطني بتعزيز قدراتها التقنية والعلمية لمواكبة التحديات الأمنية المتجددة.
كما تم تسليط الضوء على الجهود المبذولة في مجال السلامة المرورية، حيث تم تسجيل 96,810 حادثة سير بدنية في المجال الحضري خلال سنة 2024، بنسبة ارتفاع بلغت 14%، مما استدعى تعزيز التدابير الوقائية والتوعوية للحد من هذه الظاهرة .
من جهة أخرى، تميزت الدورة الحالية بعرض ابتكار أمني فريد تمثل في سيارة “أمان” للدوريات الذكية، والتي طورتها كفاءات مغربية داخل المديرية العامة للأمن الوطني. هذه السيارة مجهزة بكاميرات بزاوية 360 درجة، وأنظمة تعرف تلقائي على لوحات الترقيم، وبرمجيات تشتغل بالذكاء الاصطناعي لتمييز الأشخاص المشبوهين، وقد أثارت اهتمام عدد كبير من الزوار والخبراء على حد سواء، لما تحمله من دلالات على السيادة التكنولوجية والاعتماد على الموارد الذاتية في تطوير منظومة الأمن.
كما احتضن المعرض ندوة علمية مهمة حول الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في المجال الأمني، حضرها باحثون مغاربة وأجانب، وتم خلالها عرض تجارب دولية في هذا المجال ومقارنة مدى تطور النموذج المغربي في توظيف الرقمنة لخدمة الأمن العام. وتبين من خلال العروض أن المغرب يخطو خطوات جدية نحو دمج التكنولوجيات المتقدمة في التخطيط والتدخل الميداني، مع احترام تام للمعايير القانونية المرتبطة بالخصوصية وحماية المعطيات الشخصية.
كما حضرت عرضاً حياً لمحاكاة تدخل أمني لتحرير رهائن، بمشاركة فرقة التدخل السريع. العرض كان دقيقاً، واقعياً، ومحترفاً إلى درجة جعلت بعض الحاضرين يعتقدون أن الأمر حقيقي. وقد أعقبه شرح مفصل حول مراحل التدخل، وتدابير السلامة، وآليات التفاوض في حالة الأزمات، مما أضفى على المعرض بعداً تربوياً بامتياز، خاصة للشباب الذين يتطلعون لفهم تفاصيل هذه المهن الشاقة.
كما شكل عرض 600 طائرة مسيرة (درون) لحظة مدهشة في اليوم الأول، حيث تم تنظيم استعراض ضوئي ليلي بألوان العلم المغربي وشعارات الأمن الوطني، وهي سابقة وطنية في هذا النوع من العروض، عكست الحرفية والدقة التقنية التي وصلت إليها فرق الأمن في تعاملها مع تكنولوجيا الطائرات بدون طيار.
من خلال زيارتي في اليوم الثاني، يمكن القول إن هذه الدورة من أيام الأبواب المفتوحة قد رفعت من سقف التطلعات، وكرست مقاربة جديدة تقوم على الشفافية والتواصل وتوطيد الثقة بين المواطن ومؤسساته الأمنية، بما يجعل الأمن اليوم ليس مجرد جهاز سلطة، بل فاعلًا مدنيًا يشارك في تربية الناشئة، وتوجيه الوعي الجماعي نحو قيم المواطنة والحفاظ على النظام العام. هذه التظاهرة لم تكن استعراضًا للقوة، بل درسًا في الاندماج المجتمعي، ودعوة مفتوحة لإعادة تصور العلاقة بين الأمن والمجتمع في مغرب يتغير بثبات.
عبد الحكيم العياط
باحث جامعي في العلوم السياسية