الصحافة _ الرباط
قال عبد الحميد الجماهري مدير نشر جريدة الاتحاد الاشتراكي، إن ”موقف إسبانيا، بقرارها التاريخي الحاسم، يدل على أن مدريد قرأت قراءة ذكية الدينامية السياسية والديبلوماسية في المنطقة وفي العالم، وعلى تقدير في محله لقواعد اللعب الجديدة في الديبلوماسية المغربية”.
وأضاف الجماهري، ضمن عموده لعدد اليوم الإثنين، من جريدة الاتحاد الاشتراكي بعنوان ” خُلقنا لنتفاهم.. !- fuimos hechos para enterdernos”: لهذا اختارت أن تتجه نحو المستقبل، بمعية المغرب، عوض أن ترهن نفسها وتحبسها في منطق التأزيم الماضوي، والارتباك الجيو ـاستراتيجي الذي طبع مواقفها في الآونة الأخيرة”.
وهذا مما كتبه الجماهري ضمن عموده:
” إذا كان المغرب يعتز بأن موقفها الأخير دليل على المردودية الديبلوماسية للحزم الذي أبداه المغرب، عن حق وباسم الحقيقة، فإنه أيضا يثمن النضج الكبير الذي أبدته جارته الشمالية في تقدير الموقف، وفي استخلاص ما يجب استخلاصه بدون السقوط في العناد وفي الخطأ، entêtement dans l’erreur فلم يكن أمامها سوى أن تنتصر على ترددها، وعلى ما ظلت تعتقد بأنه حياد تاريخي في قضية محسومة هي أكثر الدول اطلاعا على ملابساتها..فحدث أنْ انتصرت مع موقفها الجديد مجموعةُ القيم التي تؤسس لعلاقات الثقة، والوضوح والمسؤولية واحترام السيادة الوطنية، كثابتٍ بِنيوي بين أي جارين محكوم عليهما بالتفاهم..
لطالما أثثت مدريد الحياد بأصابع الديناميت، ولطالما كان تاريخها منذ البداية، تاريخ دولة محكومة بحنينها الاستعماري.. الذي قد يُضيع ويُفوِّت عليها تراكما إيجابيا لمدة عشرين سنة من التعاون الاستراتيجي العميق، كما حدث في قضية ابراهيم غالي. ولحسابات عابرة وأنانية.
ومن هذه الزاوية، فإن انتهاء الأزمة بينها وبين المغرب، ليس هو نهاية مسلسل ديبلوماسي مألوف، مهما بلغت حدته كما في كل الأزمات بين الدول، ولاسيما الدول الجارة، بل هو منعرج كبير وتاريخي، لدولة رافقت المغرب طوال قرون، أَثَّرت وتأثرت بقضيته الترابية .
فنحن، إذن لا نغادر زمن الأزمة لنعود إلى وضع سابقstatu quo، وانفراج عادٍ ، بل ندخل في زمن مغاير، ونقلة تاريخية، تقطع مع الماضي من أجل الحاضر والمستقبل معا.
للاعتبارات التالية:
-1 هذا اعتراف دولة ليست ككل الدول المهتمة بقضيتنا المصيرية، فهي قوة الاحتلال السابقة لجنوب المغرب، كانت شريكا في توفير شروط خلق الانفصال وحليف موضوعي للخصوم، وهي التي عارضت علانية اعتراف أمريكا بسيادة المغرب على صحرائه …
عندما بدأت قضية الصحراء المغربية تعرض على المجتمع الدولي، وقفت إسبانيا غاضبة تهدد المغرب، ولما أصدرت محكمة العدل الدولية في أكتوبر 1975 قرارها الذي يقر بوجود علاقات بيعة (سيادة ) بين المنطقة والملكية المغربية، سعت إسبانيا الفرانكوية وقتها إلى تأويل معاكس للمغرب، بل هددت المغرب الذي أعلن عن تنظيم المسيرة الخضراء لتحرير الصحراء، بأنها قد تلجأ إلى الرد العسكري . أما مندوبها الدائم وقتها في الأمم المتحدة، فقد سخر في البداية من المسيرة وسماها العبث، ثم انتقل إلى تهديد المغرب إن هو أقدم عليها.
كانت إسبانيا تقول إن المسيرة تهديد للشعب الصحراوي، وتكلمت عن هذا الشعب، باعتباره من رعاياها الذين تولت قضيتهم ..
وفي نفس الوقت كانت الجارة الشمالية هي الضلع الثالث في اتفاقيات مدريد 75 مع المغرب وموريتانيا، وهي التي سلمت المغرب مفاتيح صحرائه..وهي التي تملك من الوثائق والحقائق أكثر من أية دولة أخرى..
هذه الثنائية التي تحكمت في مدريد دوما، يبدو أنها تتخلص منها، في أفق جديد، ولعلها تدرك أكثر من أي بلد آخر أنها توفر لنفسها الانسجام مع ذاتها ومع حقائق الجغرافيا والتاريخ..وسيصبح للسلم والتعاون منبر إضافي، يدافع عنه، ضمن الأمم المتحدة وضمن الاتحاد الأوروبي وضمن جمعية أصدقاء الصحراء، ويسحب من أثرياء الأزمات ورقة سياسة وجيوـ استراتيجية مهمة..
فإسبانيا أدرك اليوم بأن الأوهام لا تصنع استراتيجيات أمام التحديات القوية، وتقلبات الجغرافيا السياسية في جوارها القريب.
2- بالرغم من كون القرار يشكل انقلابا جيواستراتيجيا خارجا من رحم أزمة عاصفة تشبه هزيم الرعد فقد تم إعداده على نار هادئة..منذ أعلن عن ذلك الملك محمد السادس في 20 غشت الماضي، عندما قال «اشتغلنا مع الطرف الإسباني، وخص بالذكر بيدرو سانشيز بكامل الهدوء والوضوح والمسؤولية»..وتلت ذلك عدة محطات منها محطة 17يناير2022 عندما دعا الملك فيلبي السادس «المغرب وإسبانيا إلى علاقات تليق بالقرن 21..» وهي دعوة فهم المغاربة منها التحرر من بقايا إسبانيا القديمة،. سجينة مواقفها الاليزابيتية والفرانكاوية، وعليه لن تقف علاقات المرحلة الجديدة غير المسبوقة التي وعد البلدان بعضهما البعض بها، عند هذا البعد التاريخي والإيجابي بالدفاع عن حل «الحكم الذاتي»، بل يمكن أن نحلم بما هو أكبر في الجوار، والذي يمكنه أن يصنع لنا تكتلا ثنائيا، جيو ـ استراتيجيا في غرب المتوسط، يجعل البلدين من أكبر القوى الاقتصادية والسياسية فيه . عنوانه الكبير، موقع لا تعود فيه مدريد تفصل بين مصالحها الاستراتيجية ومصالح المغرب، في ارتباط عضوي معلن وصريح.
نحلم بالفعل أن توضع على الطاولة، في الوقت المناسب، الأشواك كلها التي تطبع التاريخ والجغرافيا في منطقة المتوسط.. ونخرج جميعا من القرن 20 قرن استعمار المغرب الحديث…
3ـ لا يمكن أن نفكر في القرار الحالي، بدون استحضار الانتصارات التي حدثت والمواقف الإيجابية المتراكمة، لاسيما التي أعلنتها ألمانيا بعد الأمة معها وقُبيْل الرسالة الحالية لبيدرو سانشيز. والتي عززت التوجه الذي أطلقته واشنطن، والتحقت به بعد أن حاربته..
والمنطلق الذي تحكم في الرسالة هو المنطق نفسه الذي دفع برلين وواشنطن إلى تأكيد الحكم الذاتي، علاوة على التوجه الدولي الذي كرسه القرار 2602
4- الرسالة التي بعثها سانشيز تضمنت أجوبة واضحة على أسئلة واضحة طرحها المغرب والتزامات صريحة على تحفظات المغرب إزاء سلوكات سياسية للحكومة في بلاد الجوار الشمالي.. ولعلها المرة الأولى دوليا التي يتم فيها إعلان مدونة سلوك لحسن الجوار بالتفصيل العلني من طرف دولة أوروبية إزاء دولة افريقية أو عربية، أو حتى بين دول من قارة واحدة..أو بين الدول القوية نفسها !
5- لقد ذكَّرتنا مضامين الرسالة بخطاب الملك، في 20 غشت 2021 والذي أكد فيه أن قواعد اللعب قد تغيرت وأن الذين يقرأون مواقف المغرب من زاوية تهمهم، هُمُ المخطئون وأن ثوابته هي التي تملي عليه مواقفه.. وفي هذا المضمار، لا يمكن أن نذكر القوة المغربية في التفاعل مع متطلبات المرحلة، بدون الرجوع ولو سريعا إلى خطاب الرياض 2016، ومواقف المغرب مع جميع الشركاء الاستراتيجيين.
6 ـ لا بد من أن نشير، بعجالة ، إلى أن الخطاب الملكي 2021، تحدث عن المشكلة مع ألمانيا، وقد سُوّيت، وتحدث عن المشكلة مع أسبانيا وها هي في طور التسوية وتحدث عن الاستهداف الداخلي عبر التهجم على أجهزته السيادية ومنها الأمنية، وعبر «بيغاسوس» وهو يعيد طرح الموضوع من جديد على أصحابه..
وما زالت العلاقات مع فرنسا، التي وردت في الخطاب إياه في مناخها ، وهو الخطاب الذي كان قد تحدث فيه عن العلاقة مع «ايمانويل ماكرون» وذكره بالاسم..
وختاما بهذا الخصوص، سيحتفظ التاريخ بأن محمد السادس دافع عن سيادة المغرب وأنَفَته مع دول أوروبية قوية، اسمها ألمانيا وإسبانيا وفرنسا..ولعلها معالم مدرسة ديبلوماسية مقدامة شعارها الحزم مع الشركاء قبل الآخرين، حزم أساسه الحق، والوضوح والثقة في النفس والمسؤولية والقراءة الجيدة للديناميات السياسية في الجوار القريب والجوار البعيد معا !
7ـ لقد ترافق هذا التحول مع متغيرات حاسمة في محيط المغرب الجنوبي، من أبرزها تطهير معبر «الكركرات»، وكان المغرب قد تحدث قبل القيام به مع مدريد، ثم التفاهم الذي حصل، مع موريتانيا، والسير نحو تفاهم أكبر. وهو ما يعني أن سياسة «الكماشة» التي حاولت الجزائر أن تعمل بها وتختارها لمحاصرة المغرب، عبر توتير علاقاته شمالا ثم خلق بؤر شبه عسكرية جنوبا، هذه السياسة تتداعى.
وهو ما لا يمكن أن تختلف العاصمة مدريد مع عاصمة من قبيل واشنطن في تقدير تأثيراته على المرحلة التي بدأت في المنطقة..
8- والسؤال الذي يراود الكثيرين: والآن ماذا ستفعل الجزائر؟
الجواب ، كما في تقديم لكتاب حديث لسفير فرنسا السابق في الجزائر . «كزافيي دييينكور »، «الكل مهتم بالجزائر ولا أحد يفهم فيها شيئا !».. والشيء الوحيد الذي تعمل عليه وهو مفهوم حقا… هو العداء !
قد ينتظر الأكثر تفاؤلا أن تكون الجزائر، بمبررات اخوية. وجغرافية وسياسية أكثر من يلتقط هذا الموقف الجديد لمدريد وأن تحذو حذو إسبانيا بعد أن لم تكن سباقة إليه، ولكن الرد الأولي المتعلق باستدعاء سفيرها في مدريد، يضع سلوكها القادم في سياق استمرار العداء، بالذهاب أبعد* وبضغينة أكبر. خاصة وأن سياستها في محاولة محاصرة المغرب، شمالا وجنوبا، أسقطتها في شراكها، بعيدا عن الديناميات الجيواستراتيجية الجديدة في الفضاء المشترك ..
ثم الاستغراب الذي أبدته وهو يدعو إلى الاستغراب، لأن الإسبانيين أعلنوا بأنهم أخبروا الجزائر بقرارهم قبل إعلانه من طرف المغرب !
لقد سبق أن تولت الجزائر بعض المواقف الإسبانية في العهد القديم، عندما تخلت إسبانيا عن استعمارها وكما قال ملك إسبانيا السابق خوان كارلوس في مذكراته: «مواقف الجزائر سرعان ما أصبحت مواقف البوليزاريو» وليس العكس !
وتابعت هي الحرب بدل الفرانكاوييين الذين انسحبوا، واعتبرت اتفاق مدريد «خيانة»، على لسان الراحل بومدين،.. وكل ما يروج يدل أنهم يعتبرون الاتفاق الحالي «خيانة» لهم، وقد يلجأون إلى التصعيد بوسائل قد تكون محدودة وقد تكون انتحارية في وضع متسم بتقاطبات حادة، بين الغرب وروسيا اختارت الجزائر فيها منح ترابها لقواعد مناهضة للحلف الأطلسي.
قد تجد الجواب، كما في كل الحالات الماضية،عند دهاقنة النظام البومديني الماضي !
كان يمكن لإسبانيا أن تشكل نموذجا للجزائر في قرار تاريخي، لتغيير مواقفها من قضايا المغرب في الاتجاه الصحيح، وتاريخ الصراع الذي افتعلته مع بلادنا، حجة ودليل لدعم هذا التحول، كان من الممكن أو كان لا بد لها أن تفهم بأن عواصم العالم وعواصم المنطقة تتساءل، في الوقت الذي يقدم فيه المغرب عرضا سياسيا شاملا للتعاون والسلام والديموقراطية، ماذا تقدم الجزائر كبديل عن ذلك ؟
إنها تريد دُويلة تحت حكمها، في شريط ساحلي صحراوي يعج بالمنظمات الإرهابية من بوكو حرام إلى القاعدة و«داعش»، مع ممر «آمنٍ» لإيران الملالي لتسليح الانفصاليين، وهو إقرار صار الآن رسميا وتبنته الجامعة العربية !
لقد خُلقنا لنتفاهم، ولنا مشتركات قوية، لتجاوز ما قد يفتعله صناع الحنين النكوصي، من ظروف مناهضة .. “.