بلال التليدي*
سيكون من العبث اليوم الظن بأن وضع الإسلاميين بالمغرب يسمح لهم بالاستمرار في إلهام الإسلاميين بتجربة استثنائية في المنطقة اعتمدت منطق الشراكة والتوافق، فالتجربة اليوم تمر بمنعطف حاسم، محكوم بتفاقم الخلاف السياسي الداخلي رغم إصرار القيادة على التبشير بنجاح الحوار الداخلي.
بدأ الخلاف على خلفية تدبير مرحلة ما بعد إعفاء بنكيران، وتراجع رئيس الحكومة الجديد (سعد الدين العثماني) عن المحددات التفاوضية التي تبناها الحزب إلى ما بعد الإعفاء، وقبوله إدخال «الاتحاد الاشتراكي» إلى الحكومة بعد أن ضحى رئيس الحكومة السابق برئاسة الحكومة في سبيل ممانعة الضغوط التي كانت تريد فرض تشكيلة حكومية لا تعكس نتائج الانتخابات.
ثم تعمق الخلاف أكثر بعد الحراك الاحتجاجي والمقاربة التي تورطت بعض أطراف الحكومة في تبنيها (اتهام حراك الريف بالانفصال) قبل أن يتم مراجعتها، إذ نتج عن ارتباك الحكومة وتأرجحها بين تبرير المقاربة الأمنية وتبني الخيار السياسي تراجع شعبية الحزب لدى الرأي العام، انعكس بشكل كبير على الداخل الحزبي، فتباينت وجهات النظر بين طرف يدعم خيارات الحكومة رغم ارتباكها، وطرف آخر يرى أن تواتر الاحتجاجات، لاسيما في الريف، جاء نتيجة الانزياح عن المسار الديمقراطي وضعف منظومة الوساطة وتراجع وظيفة الأحزاب. ثم احتد الخلاف مرة ثالثة بعد العقاب السياسي الذي وجه لحليف العدالة والتنمية «التقدم والاشتراكية»، وتحميله جزءاً من مسؤولية عدم تنفيذ المشروع الملكي «الحسيمة منارة المتوسط» وإقالة وزيرين منه؛ بين طرف يميل إلى اتهام حليف الحزب بالتورط في ملفات فساد، وطرف آخر يرى أن الحزب يضع يده في يد جهات تريد تفكيك تحالفات بنكيران، وإضعاف قدرة الحزب على المناورة داخل كتلة حلفائه. ثم جاءت لحظة الخلاف الرابعة، من الجنس نفسه، بعد إعفاء كاتبة الدولة في الماء، شرفات أفيلال، القيادية في الحزب الحليف للعدالة والتنمية، والذي شكل زلزالاً عنيفاً دفع نبيل بن عبد الله الأمين العام التقدمي إلى أن يؤسس لخطاب سياسي جديد لا يتردد في نقد سياسة العثماني والثناء على سياسة سلفه بنكيران، بل لا يتردد في طرح سؤال جدوى المشاركة في هذه الحكومة وهي تنفذ مشاريع تفكيك التحالف الذي نسج بعنوان دعم المسار الديمقراطي. لحظة الخلاف الخامسة لم تبلغ درجة كبيرة من الحدة؛ بسبب قدر من الجرأة تبنته قيادة الحزب في التعاطي مع إعادة محاكمة قيادي الحزب حامي الدين على خلفية قضية تم الحكم فيها ببراءته، إذ سارعت إلى تقديم الدعم السياسي له والإقرار بأن هذا الملف سياسي، وأن جهات تريد استثماره هذا لممارسة الابتزاز السياسي ضد الحزب.
لحظة الخلاف السادسة كانت ربما أقوى، وذلك لما انطلقت دينامية «الأحرار» بمشروع (مسار الثقة)، وتحرك أمينه العام عزيز أخنوش في جولات جهوية بخطاب نقدي للحكومة وقطاعات العدالة والتنمية وحليفه، وممارسته لحملة انتخابية سابقة لأوانها، والتبشير برئاسته للحكومة في انتخابات 2021، وهي الدينامية التي أخرجت رئيس الحكومة السابق من صمته، فأطلق مواقف نقدية قوية لهذا الحزب لم تستطع قيادة الحزب أن تستثمرها إيجاباً، فحولتها إلى نقطة خلاف داخلية، إذ بدل أن تشتغل على سؤال إلزام «الأحرار» باحترام ميثاق الأغلبية وواجب التضامن الحكومي، حاولت أن ترد المشكلة إلى الداخل، مستعينة بقضية الانضباط المؤسساتي، وما إذا كان منهج الحزب الإصلاحي يسمح لفرد داخل الحزب أن يمس بتماسك التحالف الحكومي؟
سيكون من العبث اليوم الظن بأن وضع الإسلاميين بالمغرب يسمح لهم بالاستمرار في الإلهام بتجربة استثنائية في المنطقة اعتمدت منطق الشراكة والتوافق، فالتجربة اليوم تمر بمنعطف حاسم، محكوم بتفاقم الخلاف السياسي الداخلي رغم إصرار القيادة على التبشير بنجاح الحوار الداخلي
لحظة الخلاف المركزية التي عصفت بالدينامية التي حاولت قيادة الحزب أن تبشر فيها بنجاح الحوار الداخلي، هي القانون الإطار لإصلاح منظومة التربية والتكوين، فبدل أن تتوجه القيادة إلى فتح نقاش علمي متخصص، يتلوه توسيع النقاش داخل برلمان الحزب بشأن الهندسة اللغوية ولغة التدريس، احتكرت الملف ومارست الإكراه المستند إلى قاعدة «الرأي حر والقرار ملزم» على الفريق النيابي، لتفاجأ بخرجة جديدة للأستاذ بنكيران ليلة التصويت داخل اللجنة، ودعوة منه لقيادة الحزب بمراجعة الموقف، وأن ذلك سيكون بمثابة خيانة للأمة ولخياراتها الثابتة، إن تم الاتجاه لفرنسة التعليم. المثير في الموقف أن تدبير الملف لم يأت هذه المرة من قيادة الحزب، وإنما تم حفظ الملف وإخراجه من المؤسسة التشريعية، واحتداد للنقاش الداخلي بين من يرى أن القيادة بصدد مزيد من تقديم التنازلات التي وصلت حد انتهاك الحدود، وطرف آخر يرى أن خرجة بنكيران ودعوته الإخوة للتصويت ضد المادة 2 و31 من مشروع القانون الإطار هي افتئات على سلطة المؤسسات ومحاولة توجيه الفريق النيابي من الخارج. تهريب النقاش أو حفظ الملف لبعض الوقت لم يطل طويلاً، إذ سرعان ما فوجئت المؤسسة التشريعية بدون علم الحكومة، بإعادة الملف إلى البرلمان في فترة الصيف، ليحتد النقاش الداخلي مرة ثانية، وتقرر قيادة الحزب التصويت على مشروع القانون الإطار، والاكتفاء بالامتناع على المادتين 2 و 31، وهو القرار الذي أفضى إلى تمرير القانون في اللجنة البرلمانية المعنية، ليتفجر الخلاف بموقف حركة التوحيد والإصلاح وصدور مواقف لعدد من الشخصيات الوطنية تستنكر مواقف العدالة والتنمية، وتحمله مسؤولية التفريط في اللغة العربية والتمكين للوبي الفرنكفوني، لتتلو ذلك خرجة جديدة للأستاذ بنكيران، قبيل التصويت في اللجة العامة يبرئ ساحته من هذا الموقف، ويعتبر أن التصويت على فرنسة التعليم يمثل ضربة قوية لرصيد الحزب ومرجعيته وورقته المذهبية.
الخلاف الداخلي هذه المرة أخذ طابعاً سجالياً قوياً، فالطرف الأول يرى أن قيادة الحزب فعلت نفس ما فعله بنكيران حين دعا إلى المصادقة على بروتوكول الاختياري لاتفاقية «سيداو»، وأنه لم يكن يستبيح لأي شخص أن يمس بمبدأ الانضباط لقرارات القيادة، في حين يرى الطرف الثاني أن أكبر خطأ ارتكبته القيادة احتكارها القرار في قضية كان المفروض أن يتوسع النقاش فيها ويلجأ إلى برلمان الحزب، وأنها استغلت قاعدة «الرأي حر والقرار ملزم» لكي تفرض بالإكراه على الفريق التصويت على القانون، وأن قياس المواقف على تصرفات بنكيران السابقة ليس حجة، وأنه لا يجوز بحال قياس الأخطاء إلى الأخطاء، إن صحت أن تسمى بعض مواقف بنكيران أخطاء. التقدير أن الحزب لن ينقسم، وأنه في المقابل من الممكن أن يتعرض لنكسة انتخابية مؤلمة قد لا تصل حد تراجعه عن الرتبة الأولى، لكن وجود بنكيران في هذه الحالة مفيد جداً للحزب.
كاتب وباحث مغربي