الصحافة _ وكالات
التزم عبد الرحمن اليوسفي الصمت طويلا بعد “غصة” خروج المغرب عن “المنهجية الديمقراطية” في 2002. وقتها لم يخف الزعيم اليساري عدم رضاه عن منح قيادة الحكومة لشخص غير منتم سياسيا بدل حزبه، متصدر أول انتخابات تشريعية في العهد الجديد، بل طار إلى بروكسل وعبّر عن رأيه بوضوح ثم توارى عن الأنظار.
لم يكسر السياسي المغربي البارز صومه عن الحديث إلا في حوار مع “العربي الجديد” نشر بتاريخ 11 إبريل/ نيسان 2015. وقال فيه حرفيا: “هذا كان قراراً نهائياً ولا أريد أن أكسره في هذا الحديث، وللعلم هذا أول حديث صحافي أدلي به منذ خروجي من العمل الحكومي والحزبي عام 2002 وسيكون الأخير. وهو تنازل أقوم به تقديراً للصداقة التي تجمعنا، ولانجذابي التلقائي لاسم (العربي الجديد)”.
برحيل عبد الرحمن اليوسفي، الوزير الأول السابق وزعيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، اليوم الجمعة، عن عمر ناهز 96 عاماً، طُويت صفحة أبرز السياسيين الذين ساهموا في ميلاد ما يعرف في أدبيات السياسة المغربية بحكومة التناوب بين عامي 1998 و2002، والانتقال السلس للعرش في المغرب، بعد وفاة الملك الراحل الحسن الثاني واعتلاء الملك محمد السادس سدة الحكم. ورغم قيامه بدور محوري في انتقال العرش بسلاسة، حتى إنه كان بمثابة “عراب انتقال الحكم”؛ فقد قال بكل تواضع في مقابلته مع “العربي الجديد” إنه يترك تقييم الدور الذي قام به “للذين سيحكمون على هذه التجربة من وجهة نظر التاريخ”.
يمتلك “سي عبد الرحمان”، كما كان يحب أن يناديه المقربون منه، سيرة سياسية تمتد في الزمن طويلا، بدأها مبكرا في عام 1943، حينما كان يتابع دراسته بثانوية مولاي يوسف في مدينة الرباط، بعد أن انضم إلى حزب الاستقلال، وأسس خلية نضالية، ستجر عليه مطاردة من قوات الاستعمار الفرنسي، اضطرته إلى الانتقال بين العديد من مناطق المغرب، قبل أن يستقر به الحال في مدينة الدار البيضاء، التي شكلت محطة بارزة في مساره السياسي، بعد أن نشط في تنظيم الطبقة العمالية.
وشكل حادث نفي الفرنسيين للملك محمد الخامس في عام 1953، إلى جزيرة مدغشقر، محطة أخرى في مسار اليوسفي، بعد أن كان من الأسماء البارزة التي شاركت في تنظيم وإدارة حركة المقاومة وجيش التحرير.
وظل اليوسفي يمارس نشاطه السياسي في حزب الاستقلال طيلة السنوات التي تلت استقلال المغرب من نير الاستعمار الفرنسي، قبل أن يقدم في عام 1959 على خطوة الانشقاق وتأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي سيصبح فيما بعد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بمعية قادة بارزين من أمثال المهدي بن بركة، ومحمد البصري، وعبد الله إبراهيم.
وتبقى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي من أبرز المحطات في مسار اليوسفي، بعد أن وجد نفسه مع عدد من رفاقه في الحزب الجديد عرضة للاعتقالات والمحاكمات، كانت أبرزها محاكمته في 1963 بتهمة التآمر في سياق الصراع الذي كان دائرا وقتها بين قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والملك الراحل الحسن الثاني.
وفي عام 1965، سيضطر اليوسفي إلى اختيار المنفى بفرنسا لنحو 15 عاما، بعد أن صدر في حقه حكم بالإعدام غيابيا، وذلك في سياق ما عرف وقتها بمحاكمات مراكش (1969-1975). قبل أن يصدر، في صيف 1980، حكم بالعفو عنه، مكّنه من العودة إلى المغرب ليمارس عمله السياسي في الحزب الجديد، حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، من بوابة المندوب الدائم في الخارج وعضو المكتب السياسي.
وظل الرجل طيلة سنوات الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، من أشد وأكبر معارضي نظام الملك الراحل الحسن الثاني، قبل أن تتغير الأمور كليا، ويصبح أول رئيس حكومة في تاريخ المغرب بهذا الماضي السياسي، في ما يعرف في أدبيات السياسة المغربية بحكومة التناوب بين عامي 1998 و2002. كما كان من أبرز المساهمين في انتقال سلس للعرش بعد وفاة الملك الراحل الحسن الثاني واعتلاء الملك محمد السادس سدة الحكم.
ورغم إسهامات اليوسفي تلك، سيجد نفسه، في عام 2002، مضطرا إلى اعتزال العمل السياسي ومغادرة البلاد غاضبا، بعد أن اعتبر أن المغرب حاد “عن المنهجية الديمقراطية”، إثر قيام العاهل المغربي بتعيين وزير داخليته السابق، إدريس جطو، غير المنتمي لأي حزب على رأس الحكومة، في وقت كان ينتظر أن يقودها حزب الاتحاد الاشتراكي بعد احتلاله المرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية.
لكن اليوسفي لم يترك “غصة” الحياد عن “المنهجية الديمقراطية” تمر من دون أن يرسم لنفسه بابا كبيرا للخروج، حينما عبّر صراحة، في محاضرته الشهيرة بالعاصمة البلجيكية بروكسيل، عن عدم رضاه عن عدم المرور من “التناوب التوافقي” إلى “التناوب الديمقراطي”، داعيا إلى دسترة ترؤس الحزب الحاصل على الرتبة الأولى للحكومة ونقل أكبر عدد من الصلاحيات التنفيذية إلى الوزير الأول والحكومة التي يرأسها. ومع ذلك، كشف اليوسفي لاحقا أن العاهل المغربي كان يكلفه بمهام خارجية ذات صلة بقضية الصحراء، كما استشاره بخصوص تعيين الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، رئيسا للحكومة في خريف 2011.
ومنذ عودته إلى المغرب، في سنة 2016، سيحظي الرجل بمكانة خاصة لدى العاهل المغربي الملك محمد السادس، إذ سيشرف شخصياً على تدشين شارع باسمه في صيف 2016، وسيقوم بعيادته مراراً لحظة مرضه، كما تم إطلاق اسمه على فوج الضُباط الجُدد المتخرجين في أغسطس/ آب الماضي.
لم يكن اليوسفي مشغولا بالشأن المغربي فقط، بل كانت أعينه دائما على القضايا العربية. مواقفه من قضايا الاستقلال شهيرة، ودعمه للقضية الفلسطينية غير مشروط. كما أنه، وبعد سنوات من مراقبة الأوضاع عن بعد، تحدث لـ”العربي الجديد” عن الربيع العربي بحماس الشباب، قائلا : “عشته وأنا منفعل بأحداثه، وكأني أنتظره منذ زمن بعيد، وأنا الذي قضيت عمري في العمل السياسي، وجربت المعارضة والحكم، وعشت زمناً طويلاً في المنفى (15 سنة) وأنا محكومٌ بعد شهادتي في باريس في قضية المهدي بن بركة. لقد هزتني رياح الربيع العربي، ولكني لم أُفاجأ بها، كنت أخمّن دائماً أن الشعوب العربية ستصحو قريباً لتأخذ مصيرها بيدها”.