بقلم: عبد المجيد مومر الزيراوي
المُؤمن القوي خيرٌ منَ المؤمن الضعيف ، و لا حول ولا قوة الا بالله الخبير اللطيف.
هكذا نمضي مع سياقِ التَّمَعُّنِ -بعناية- في مُبادَرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، و التي طرحها من أجل تعزيز فرص السلام العالمي عبر الدفع بحزمة تدابير و إجراءات عملية تَرَاها الإدارة الأميركية آخر فرصة لإيجاد حل نهائي للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي.
و بلغة الوضوح المحمود، و لأن بلوغ غاية السلام ينطلق من التسامح المؤسس لثقافة التطبيع. نجد أنَّ سردية المقال تقودنا إلى ضرورة تقديم شرحٍ أصيلٍ لِمعنى تطبيع الدول العربية و الإسلامية مع دولة إسرائيل المُسْتَحْدَثَة.
فما الذي نَعْنِيهِ بمصطلح التَّطْبيع ؟
و من هم المَعنِيون بِواقِع التَّطبيع ؟
إنَّ التَّطْبيع – لُغةً- مصدرُ فعلِ طبَّع ، و على سبيل تبْسيط المعاني نقول – مثلا – طَبَّع إِبْنَهُ على حُبِّ الخير و السلام : أيْ عَوَّدَهُ عليْهما . كما نقول في مثال آخر طبَّع العلاقات بين البلدين : أيْ جعلها طبيعيّة عاديَّة. و قد ارتبط إستعمال هذا المفهوم اللغوي العربي المصدر ، ارتباطا وثيقا بمسار الصراع العربي الإسرائيلي حول القضية الفلسطينية العادلة.
و اليوم ؛ بعد أزيد من 70 سنة على إعتراف الأمم المتحدة بعضوية دولة إسرائيل المُسْتَحْدَثَة ، لازالت ذكريات ماضي ” حكومة عموم فلسطين المحتلة” تبحث عن حدودِ دَوْلَتِها الجغرافية دون الوصول إلى زمن ميلادها التاريخي، رغم أننا نعيش في حاضرِ إعتراف السلطة الفلسطينية المُفَاوِضَة بنشأة الدولة الإسرائيلية و ” حَقِّها” القانوني في الوجود .
هكذا – إذن – يجدُ العرب و المسلمون أنفسَهم تائِهين حائِرين وسط دوامة الوقائع الملموسة الدّالة على حقيقة وجود مسلسل مفاوضات يجمع بين القيادة الفلسطينية المُنْتخَبَة و بين حكومة إسرائيل، أَ كَانَ ذلك أمام عدسات الكاميرات ( فتح الضفة ) أو خلف كواليسِها ( حماس غزة ).
بل .. نجد الحقيقة مُوَّثَقَة بِمداد التوقيع على صريح مضامين إتفاقيات أوسلو، بمباركة هيئة الأمم المتحدة و الدول العظمى الراعية لمسلسل السلام و معهم جامعة الدول العربية. و كذلك ضمن متون إتفاقيات التهدئة التي تلتزم بها حركة حماس بوساطة مصرية.
قد يقول قائل أن العداء لازال مُتَرَسِّخًا بين الشعبين الفلسطينيّ والإسرائيليّ ، و الشاهد على ذلك العدوان المتواصل على حرمات و حقوق الفلسطينين الأبرياء في قطاع غزة و الضفة الغربية.
إلاَّ أن هذا القول المَرْدود على أصحابِه ، يكشِفُ – أولًا و أخيراً- نهاية دور جامعة الدول العربية في ضبط توازنات هذا الصراع . و قبل ذلك كان الانقسام بين الفريق الفلسطيني المفاوِض في العلن و بين الفريق الفلسطين المفاوِض في السّر، و عدم قدرتهما على إحقاق الإتفاق الأخوي الحازم لِتأمين الأرض و حماية الشعب الفلسطيني .
أَ يَا معشر الأخوات والإخوة غير المُنْصِفين !
هذا خبر صفقة القرن ، إنّه مسار مفاوضات سنين جمعت بين العرب و الفلسطينين و بين الإسرائليين .. على طاولة السلام مُتَقابِلين مُتَصَافِحين .. وَ ” لِواجب” العزاءِ مُتَبادِلِين!.
وَ لَعمْرِي ؛ ما رأيت مثل هذا التناقض الإنفصامي إلاَّ بين ثنايا خطاب سياسوي غير عقلاني ، يعتمدُه أولئك الذين جعلوا من عنفوان القضية الفلسطينية مَطِيَّة لِخدمة أجندات و مصالح دول عظمى و أخرى إقليمية، دول متصارعة حول الهيمنة المذهبية أو التوسع الإقليمي ، أو التَّحَكُّم في الموارد الطبيعية الاستراتيجية ( النفط و الغاز ) بالمنطقة العربية.
نعم ؛ هَا هُوَ خبَر الصدمة يأتي بعد مبتدأ النكبة ، وَ هَا هيَ كرونولوجيا الحقائق الملموسة تؤكد لكل عاقلٍ لبيبٍ ما يَلي :
☆ سلام أول : تطبيعُ تركيا كأول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل عام 1949، و تبني معها شراكات استراتيجية سارية المفعول إلى حدود اليوم رغم مظاهر المدِّ و الجَزرِ.
☆سلام ثانٍ : تطبيعٌ بين مصر و إسرائيل.
☆سلام ثالث : تطبيعٌ بين الأردن و إسرائيل.
☆سلام رابع : تطبيعٌ بين منظمة التحرير الفلسطينية و إسرائيل.
☆” سلام” خامس خط أزرق بين لبنان و إسرائيل.
☆سلام سادس : تطبيعٌ وارد ضمن مبادرة سلام أقرَّتْها جامعة الدول العربية.
☆سلام سابع : تطبيعٌ شامِل ٌ قادِمٌ مفروضٌ بِقُوَّة “صفقة القرن ” بين دول الخليج و إسرائيل.
و كل الجرد الذي سبق ، يَخْتَصِرُهُ التعبير الغنائي الشعبي المغربي في عَيْطَة : ” سَبْع سْلاَمَات في سْلاَمْ يَا الغَادِي زَرْبَانْ “.
فَلِمَ نُقَابَلُ بِكُل هذا الرُّكام المُتَرَاكِم من التضليل المُمَنْهَج ؟! ،
لِمَ اللَّعب على حبال العاطفة الجياشة للعرب و المسلمين ؟! ،
و لماذا هذا السبَاب المُنْبَعِث من أفواهِ جمهورِ القوْمجِية العربية الفاشلة و دعاة الخلافة الكهنوتية الفاشية ؟!
هي الأجوبة واضحة ، هي التعابير لا نُرِيدُها مقالة جَارِحَة … فلا ذنب لنا – كشباب مغربي حداثي شعبي- إلاَّ مَطلب الوضوح و الواقعية ، و العمل الصادق وفق إستراتيجية عقلانية سديدة من أجل إحقاق حلٍّ عادل يضمن حقَّ شعب فلسطين الأبية.
نحن الذين نُعايش زمن الثورة الرقمية ، بل نحن قد. ابتعدنا بِمَسَافَة السِّنِين الضَّوْئيَّة عن أكذوبَة” القَوْمَجِيَّة العربية” ، و إصْطدَمْنَا بِجاهليةِ العنفِ و التطرفِ ، و ديماغوجيةِ دعوةِ ” الخَوَانْجِيَّة الكَهَنُوتيَّة”. ثم تَمَظهَر عَلَيْنا حَشْدُ أولئك الذين جَلَسُوا القُرْفُصَاء ينتظرون ظهور ذاك ” المَهدي المُسْتَتر ” . قبل أن يَسْتَبْسِلوا في لَطْمِ الخدودِ ، و ضربِ الصُّدورِ ، و كَسْرِ جماجم المعرفة و التراث و الحداثة و الديمقراطية و التنمية و التقدم.
بِئْسَ القوم نحنُ ؟!
إِيْ وَ رَبِّي ؛ نحن أجيال النكبة الجديدة، خُلِقْنَا و نحن نصرخ ضد نضالات الرِّياء.. وَ هَا نحن نُلامِس زمن أنترنت الأشياء …
إِيْ وَ الله، نحن نَسْتهلك دُونَ مسايرة لذكاء الصِّنَاعَة .. نحن شَرِبْنا حليب مختبرات الأعداء ، و ليس لنا إخوة من الرَّضاعَة..
كلَّما طالبنا بتحرير الوعي من أجل عِتْقِ رَقَبَة دولة فلسطين ، يقف ذاكَ ” القَوْمَجِي ” الذي خَسِرَ القضية في ماضي المعركة.. يقف -اليوم- إلى جانب ذاكَ ” الإخْوَانْجِي ” ، حَامِلِين أبْواقَهم بالهُتَافِ لِفَيَالِق الحَشْدِ التي تَتَوَعَّدُنا بِحَاضِرِ المَهْلَكَة !.
وَ يَا لَيْتَ شِعْري ؛
مَا الفرق بين حماس غزة و بين فتح الضفة ؟! مَا الفرق بين إسماعيل هنية و بين أبو مازن ؟!
جوابكم صحيح ؛ كُلُّهُم أمراءُ طوائفِ فلسطين المَنْكوبَة. غيرَ أن المُراد من طرح الأسْئلة ، هو الغَوْص العميق في أربعينيات ماضي الصراع . هذا الغَوص العقلاني الذي يفيد أن قطاع غزة كان تحت إدارة “حكومة عموم فلسطين المحتلة” التابعة لِمصر الملك الفاروق ، في حين ضمَّ الملك عبد الله الأول قطاع الضفة الغربية إلى مملكتِه بكل قوة تفاوُضِية .
صهٍ صَهٍ
لَقَدْ وَجَدْنَا مَكْمَن الخَلَلِ ، فَبَعْد أن جمعَ الإنتدابُ البريطاني حقائِبَه و غادر الأراضي الفلسطينية ، تَاهَ الطوق العربي عن توحيد غزة و الضفة و الإعتراف بقيام دولة مستقلة. و تركوا الأبواب و النوافذ مفتوحة لكيْ تدخل دولة إسرائيل المُستحْدَثَة إلى عرين هيئة الأمم المتحدة ، ثُمَّ حَازت على قوة الإعتراف الأممي بحقوق العضوية. و أضحت مشروعية مطالب الشعب الفلسطيني في مواجهة قرارات ” الشرعية الدولية”.
وَ لعلَّ الجميع يتذكر انبثاق لجنةٍ من الجمعية العامة في سنة 1947، التي خَلُصَت – مُجْتَمِعَةً – إلى طرح حل التقسيم : تقسيم أرض فلسطين إلى دولتين يهودية و عربية، و إنشاء نظام دولي خاص بالقدس ومنطقتها، و إقامة وحدة المصلحة الاقتصادية بين الدولتين قصد التمكين لمرحلة التطبيع الكامل.
إعتبر العرب الفِلسْطينيون و معهم أغلبية الدول العربية، أن لجنةَ الأمم المتحدة قد تجاوزت ” صلاحياتها في هذا الشأن “، و إختاروا -مُوَّحَدين- مواجهة دولة إسرائيل المُستَحْدَثَة عام 1948 . فكانتِ النتيجة تقسيم أرض فلسطين بين اسرائيل و الأردن و مصر ، دون أن يَتمكنَ الشعب الفلسطيني المغبون من حقهِ الطبيعي في الإعتراف بدولته المُسْتَقِلَّة.
و بين متاهات القرارات الأممية و مصالح الدول الكبرى العالمية، ضاعت الأرض العربية و ضاعت القدس الشرقية بعد انهزام مصر الناصرية و الأردن و سوريا و لبنان ثم تَغَيَّرَت خريطةُ الحدودِ و ملفات المطالب العربية.
تَجَدَّدَت جبهاتُ النِّضال ضد الإحتلال بعد أن صَعَدَ إسمُ القائد الشهيد ياسر عرفات – رحمة الله عليه- فاسْتَجْمعَ هِمَمَ الشباب ، و ترأس منظمة التحرير الفلسطينية التي أصبحت فيما بعد الممثل الشرعي و المخاطب الوحيد باعتراف هيئة الأمم المتحدة. حمل القائد الشهيد غصن الزيتون في يدهِ اليمنى و حملَ -أيضا- خيار البُنْدُقِيَّة ، فأعاد للشعب الفلسطيني بعضا من كرامَتِه المُغْتَصَبة. كما إسْتَرْجَعَ الفقيد محمود درويش وَهَجَ القَضِيَّة بمداد القلم و أبيات الشعر القَويَّة.
ما كانَ بالإمْكان أكثر مِمَّا كانَ ، فَظَهَرَ القائد الشهيد أحمد ياسين – رحمة الله عليه – بِحَماسِه الوطني و أعطى زخماً كبيرًا للمقاومة الفلسطينية. و استمرَّ جُنْدُ قطاع غزة في مسيرة الكفاح إلى أن وقَّعَت – أيضاً- حركة حماس على اتفاق التهدئة مع دولة إسرائيل بوساطة مصرية. و هكذا ؛ تجمدت خريطة أراضي السلطة الفلسطينية ، في حدود جغرافيا الزمنِ الحاضر ، منقسمةً بين أرخبيل قطاع غزة و بين الضفة الغربية .
ثم نَرجعُ عوداً إلى بدءٍ ، لكيْ نكتشفَ بأنَّ ذاكَ الحلُّ الأممي الذي طُرِحَ قَبْلَ نهاية عقدِ الأربعينيات من القرن الماضي . ذاكَ الحل المرفوض من طرف الفلسطينيين و معهم جامعة الدول العربية حينذاك ، و القاضي بتقسيم أرض فلسطين إلى دولتين يهودية و عربية بنسبة 55 % للإسرائيليين و 45 % للفلسطينين ، مع إنشاء نظام دولي خاص بالقدس ومنطقتها، و إقامة وحدة المصلحة الاقتصادية بين الدولتين.
نكتشف – اليوم – أنَّ ذاكَ القرار الأممي كان أَرْحمَ بكثير من وقائعِ الإنقسام الفلسطيني الجَلَلِ، و الذي جنا على القضية العادلة فكانت النتيجة موافقة أمريكا على مضامين” صفقة القرن ” التي لن تضمن للشعب الفلسطيني سوى 25% من الأرض، مع شكوك قوية حول ضمان حق العودة لباقي الفلسطينيات و الفلسطينين ، و تحويل مدينة القدس إلى عاصمة” أبدية” لدولة إسرائيل المُسْتَحْدَثَة.
و رغم أن جهود المملكة المغربية – ومنها نداء القدس- تعبر بكل وضوح عن مقاومة عقلانية قوية لإنقاذ أرض إسراء النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- و تمكين الشعب الفلسطيني من آليات الصمود و الثبات حتي نيل مطالِبهم العادلة و الراسخة، إلاَّ أن سياق التحولات الجديدة لدول الخليج و الطوق العربي و التشرذم الإسلامي الحاصل ، و كذلك الاكتساح الإيراني و التركي للعديد من الأراضي العربية و تأجيجها لحمى الإقتتال المذهبي الطائفي. سَهَّلَ على الرئيس الأميركي -في الماضي القريب – التوقيع على قرار نقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس الشريف و ترسيمها عاصمة” أبدية ” لدولة إسرائيل المُسْتَحْدَثَة.
فاحذروا ارتكاب الخطأ القاتل عند قراءة الظرفية الجيو-استراتيجية العالمية ، و لاَ ترْكنوا لمخاض ميلاد النظام العالمي الجديد . و اعتبروا يا أولى الأبصار و الألباب .
و لا تنسوا أننا أمام قرار التسوية النهائية المعروض على الجانبين المتنازعين و دول الطوق العربي، فلابد من تذكير القيادة الفلسطينية المنتخبة في الضفة و القطاع، ، قبل مغادرة أميركا الدولة العظمى الراعية لمسلسل السلام للمنطقة المسماة اصطلاحا بالشرق الأوسط . أنهم أمام فرصة التفاوض الأخير من أجل القبول بتأسيس الدولة الفلسطينية الحرة المستقلة على ما تبقى من أرض67 . وَ لَهُمْ واسع النظر!.
# اللَّهم إنّا نعوذ بكَ من شتات العقل الجمعي العربي.
ملحوظة لا بُد منْها: بِلُغَة العلوم الرياضيَّات فإنَّ نقطة الإنْعِطاف هيَ نقطة واقعةٌ على منْحَنَى، يَحدُثُ عندها تَغَيُّرٌ في إشارة الإنْحِناء ؛ أيْ أنَّ المنْحَنى يتغير من شكله مُحَدَّبًا نحو الأعلى ( إنْحِنِاء مُوجَب) لكيْ يَصِير مُحَدَّبًا إلى أسفلٍ ( إِنْحِنَاء سَالِب). و الفَاهِمُ يَفْهَمُ ؟!
*شاعر و كاتب مغربي