بقلم: الطاهر الطويل*
كثيرًا ما تأخذ العزة بالإثم الحُكّام القابضين على السلطة، فينسون دروس التاريخ ومآلات الطغاة والجبابرة السابقين، ولا سيما حين يسمعون عبارات المديح والإطراء من طرف المحيطين بهم، إمّا خوفًا أو طمعًا.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يكون الثناء على المستبدّين القابعين على عروش الدول المتخلفة صادرًا أيضًا من لدن قادة بعض الدول «العظمى» الذين يمجّدونهم، من باب المصالح المشتركة، وأيضا من باب جعل المداهنة طريقًا لكسب مغانم اقتصادية أو سياسية أو غيرها.
شاءت الصدفة أن تكون ذكرى ميلاد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الثلاثاء المنصرم 19 تشرين الثاني/ نوفمبر، متزامنة مع ذكرى مجزرة شارع«محمد محمود» في القاهرة، التي اعتُبرت بمثابة حرب إبادة للمتظاهرين ضدّ الانقلاب العسكري، حيث استُعمل الرصاص والقذائف والغازات، مما أدى إلى قتل أكثر من 50 شهيدا وإصابة حوالي ألفيْ مواطن مصري.
وإذا كان الإعلام الرسمي في مصر احتفى بالمناسبة الأولى فقط، فإن القنوات التلفزيونية المعارضة جعلت من تاريخ 19 نوفمبر/تشرين الثاني فرصة لاستحضار التاريخ الدموي لنظام السيسي ولإخفاقاته المتتالية في إدارة دفّة الحكم في أرض الكنانة.
الإعلام في بـرّ مصر يلهج بلسان واحد أوحد، أمَّا في الخارج فأرض الله واسعة لفضح الفساد والاستبداد. بيد أن النظام الحاكم وأزلامه يرون في كل مُنتقدٍ أو مُعارِض شخصًا مُوالـيًّـا لجماعة «الإخوان المسلمين» وممجّداًٍ لها. ذلك أسلوب رخيص يستعمله كلُّ طاغية كــ«فزّاعة» لتخويف مُعارِضيه والناس أجمعين!
للمصريين تاريخ مجيد في السخرية من حكّامهم، تلميحًا حينًا وتصريحًا حينًا آخر، والشاهد على ذلك الكتاب الشهير لعادل حمودة، حيث تكون السخرية بوسائل شتى: النكتة الشعبية والمسرح والسينما والكاريكاتير… وخلال السنين الأخيرة، نال عبد الفتاح السيسي نصيبًا أوفر من السخرية، حيث أُطلِقَ عليه اسم «بلحة»، وأهل مصر أدرى بسـرّ هذه التسمية التي وردت من قبل في أحد الأفلام السينمائية!
عيد ميلاد غير سعيد!
في عيد ميلاد السيسي، توالت «هدايا» من نوع خاص، وجّهها إليه مشاهير القنوات التلفزيونية المُعارضة، فقد أهداه الإعلامي حمزة زوبع كتابًا باللغة الإنكليزية للخبير يزيد صايغ بعنوان «ملاّك الجمهورية»، وهو مؤلَّـفه الثاني الذي يفضح نظام الحكم في مصر بعد كتاب «جمهورية الضّباط». قال زوبع في برنامجه: «نحن لم نعد تحت حُكم العسكر، وإنما تحكمنا «المافيا» التي تمارس الجريمة المنظمة، تقتل وتسرق وتبيع كل شيء، بدون حسيب أو رقيب».
أما محمد ناصر فقد أهداه كتاب «الأمير» لميكيافيلي، مع أنه يعلم أن السيسي يُطبّق حرفيًّا «القواعد الذهبية» التي وردت في الكتاب، حيث انقلب على أقرب المقربين منه، وافتعل أزمات كثيرة مثل البنزين والكهرباء خلال حكم مرسي، وحرّض الأجهزة التنفيذية والأمنية والعسكرية على عدم الاشتغال مع رئيسه السابق، وتَوَّجَ ذلك بالتوجه صوب «إسرائيل» طمعًا في تزكية «الانقلاب» والتسويق له.
ويأتي الإعلام الرسمي ليُطبّل للسيسي؛ ويأتي أرباب الصيدليات ليتبرّكوا بتاريخ ميلاده فيضعوه على يافطة محالّهم. والحال أن سيادته لم يُراكم سوى الكوارث والمصائب التي عَدّها محمد ناصر على النحو التالي: أكبر نسبة ديون داخلية وخارجية في تاريخ مصر إذ بلغت 311 مليار دولار؛ الإنفاق على مشاريع بلا جدوى، أكبر معدلات أحكام الإعدام في العالم، ارتفاع معدل الفقر (يتجاوز ثلث السكان)، أكبر معدلات الاختفاء القسري، إرهاب مستمر في سيناء، غلاء غير مسبوق، انخفاض الجنيه مقابل الدولار، أعلى نسبة سجون في تاريخ مصر… ومن ثم فقدت أرض الكنانة مكانتها ودورها الاستراتيجي، وأصبحت مهانة في الكثير من وسائل الإعلام.
وقّدم صاحب برنامج «مصر النهار ده» فيديو يسرد «فضائح» السيسي في ستين يوما فقط: فضيحة القصور الرئاسية، اعتقال أكثر من 4000 مواطن بسبب مشاركتهم في المظاهرات، فشل مفاوضات سد النهضة وعطش مصر على الأبواب، السعي نحو توصيل مياه النيل إلى الكيان الصهيوني عبر «بئر العبد» شمال سيناء، قطع مياه النيل عن خمس السكان (عشر محافظات)، بدء إجراءات بيع أصول مصر عبر ما يسمى بالصندوق السيادي، تكاثر ظاهرة «البلطجة» في الشارع المصري… الخ.
أما معتز مطر فاختار أن يُهدي السيسي قصيدة للشاعر الشاب أحمد حمدي إبراهيم بعنوان «كل عام وأنت الخيانة»، مما جاء فيها: «كل عام وانت الخسارة.. جاي علينا بالخراب.. كل عام وانت وجنودك في النهاية المهزومين.. يمهلك يشتد عودك يلطعك في غمض عين.. كم بغا قبلك في بلدي ألف فرعون أو يزيد، صدقوا كذب غرورهم.. باعوا أوهاهم للعبيد.. وانهيار الظلم أسهل من التزحلق على الجليد…».
وجاءت هدية قناة «الحوار» للسيسي على شكل مقابلة صحافية مع الشخصية التي أصبحت تشكّل كابوسًا مزعجًا له في اليقظة قبل المنام: الممثل ورجل الأعمال محمد علي، الذي ركب الطائر الميمون من إسبانيا وحَـلّ بعاصمة الضباب، حيث تلقفته كبريات الصحف والقنوات العالمية، وأجرت معه حوارات مسحت في رمشة عين كل التطبيل والتزمير الذي يقوم به الإعلام المصري الرسمي والخاص.
سأله صحافي قناة «الحوار» عما إذا كان لا يخشى أن يلاقي المصير نفسه، الذي حدث للفنانة سعاد حسني، وأيضا لرجل الأعمال أشرف مروان (زوج ابنة جمال عبد الناصر)، حيث قيل إن كلا منهما مات نتيجة السقوط من على شرفة نافذة الغرفة في لندن، حسب الرواية الرسمية للواقعتين معًا. فأجاب محمد علي بأن مَن يريد قتله فسيلاحقه في أي مكان وُجِدَ فيه، إذ يمكن أن يبعث له «بلطجية» ليغتالوه أو سيارة لتدهسه. كان الرجل واثقا من كلامه، مستبعدًا أيّ شعور بالخوف، لأنه ببساطة صاحب موقف وقضية.
بين قيس والسيسي!
منذ أسبوع، أقام إعلامي عربي مقارنة طريفة بين خطابين لرئيسيْ دولتين، أحدهما استولى على الحكم بانقلاب عسكري وبإراقة دماء المواطنين المعترضين، والثاني استحقّ الرئاسة نتيجة انتخابات ديمقراطية نزيهة: عبد الفتاح السيسي من جهة، وقيس سعيدّ من جهة أخرى.
كانت المناسبة هي ذكرى المولد النبوي الشريف، وكان لكل من الرجلين حديث أمام الملأ في بلديهما، نقلته وسائل الإعلام. لكنْ، شتّان بين الثرى والثريا! «سيسي» مصر لاكَ لسانُه المتلعثم أسطوانةَ الإرهاب، في حين تحدّث «قيس» تونس عن القيم النبيلة والحقيقية للإسلام السمح بلُغة فصيحة وبليغة.
«بحبك يا حمار»!
تبحث قناة «أم بي سي 5» السعودية بكل الوسائل عن كيفية اجتذاب الجمهور المغاربي والمغربي تحديدًا إلى برامجها، وهكذا تفتقت عبقرية إدارتها عن دعوة المغني المصري الشعبي سعد الصغير، فخصصت له حوارًا أداره كوميديان مغربيان شابّان من خريجي أحد برامج المسابقات الفنية في التلفزيون المغربي.
للتوضيح، لم يكن الأمر يتعلق بحوار صحافي، وإنما مجرد لغط وهذيان وكلام مطلق العنان، مصحوب بالقفز والنط والحركات العشوائية. وبلغت المهزلة أوجها بتركيز الكلام على «حمار» سعد الصغير الذي يتغنّى به في أغنيته البئيسة «بحبك يا حمار»!
ألم يقولوا إننا نعيش عصر «صناعة التفاهة» بامتياز؟!
*كاتب إعلامي من المغرب