الصٌَحافة _ وكالات
قال أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك جوزيف مسعد إن إسرائيل صنعت السلطة الفلسطينية، ضمن عدة معايير وطبقات حكم تمنعها من الانفكاك من اتفاقية أوسلو.
وتساءل مسعد في مقال له على موقع “ميدل إيست آي” البريطاني عن كيفية “تحوّل نضال الفلسطينيين الذي بدأ منذ أكثر من قرن للتحرر من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني إلى نضال من أجل تمكين رجال الأعمال الفلسطينيين ورجال الشرطة الفلسطينيين الذين يقومون بحمايتهم وحماية الاحتلال الإسرائيلي”.
وفي ما يأتي نص المقال:
تُعلّمنا (صفقة قرن) دونالد ترامب بأنه لن يستطيع أحد تحرير فلسطين والفلسطينيين من مأساتهم الراهنة إلا رجال الأعمال ورجال الشرطة الفلسطينيون. فكيف تحوّل نضال الفلسطينيين الذي بدأ منذ أكثر من قرن للتحرر من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني إلى نضال من أجل تمكين رجال الأعمال الفلسطينيين ورجال الشرطة الفلسطينية الذين يقومون بحمايتهم وبحماية الاحتلال الإسرائيلي؟
بداية القصة كانت في أوسلو حيث تمثّل النصر المبين الذي حققته إسرائيل عندما وقّعت معاهدة أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 بإلزام منظمة التحرير بنقل جميع علاقاتها المستقبلية مع إسرائيل إلى كيان جديد أسمته السلطة الوطنية الفلسطينية. وعبر عملية النقل هذه، تم اختزال المنظمة التي كانت تمثل كل الفلسطينيين – في إسرائيل وفي المهجر وفي الضفة الغربية وغزة – إلى السلطة الفلسطينية التي تزعم تمثيل فلسطينيي الضفة وغزة فقط وحرمانها من تمثيل فلسطينيي القدس وقد تمّ فعليّاً حلّ المنظمة وتم استبعاد ثلثي الشعب الفلسطيني، ليصبح مختزلاً في فلسطينيي الضفة وغزة فقط. في المقابل اعترفت السلطة الفلسطينية بـ حق إسرائيل بالوجود في سلام وأمان، وهو حق، بحسب زعم إسرائيل، يجعلها دولة كل يهود العالم. وهكذا ضاعفت إسرائيل شعبها إلى ثلاثة أضعاف بزعمها بأن كلّ يهود العالم الذين يعيشون خارج إسرائيل هم في الحقيقة إسرائيليون. وهكذا اختزل الفلسطينيون إلى ثلث عددهم الحقيقي بينما تضاعف عدد يهود إسرائيل ثلاث مرات.
إضافة إلى هذا، قامت أوسلو بربط عدد كبير من فلسطينيي الضفة وغزة بعملية أوسلو على كلّ مستوى عبر تشكيلها عدة طبقات مرتبطة مالياً بشكل غير قابل للانفكاك من عملية السلام التي دشنتها أوسلو. وهكذا ضمنت المعاهدة بأنه لن يكون بمقدور هذه الطبقات إلا أن تساندها. فأحد أهم أهداف معاهدة أوسلو كان تسريح الشعب الفلسطيني الذي تمت تعبئته أثناء الانتفاضة الأولى من خلال وأد الانتفاضة عبر القمع تارة وعبر احتواء نشطائها ومثقفيها الأهم داخل بعض هذه الطبقات تارة أخرى. وتشمل هذه الطبقات:
طبقة سياسية لتسيير أعمال السلطة الفلسطينية يتكون معظم مسؤوليها من المنظمة من داخل وخارج فلسطين.
طبقة بيروقراطية لإدارة السكان تحت إدارة السلطة تتكون من طاقم من المحليين ومن العائدين.
طبقة أمنية لقمع المقاومة الفلسطينية المناهضة لإسرائيل ولأوسلو تتكون من فدائيين سابقين تحولوا إلى مرتزقة في خدمة إسرائيل تمولهم وتدربهم الولايات المتحدة والأوروبيون.
طبقة موظفي المنظمات غير الحكومية التي أنشأها الأميركيون والأوروبيون وتتكون من النشطاء السياسيين السابقين والمثقفين الذين شاركوا في الانتفاضة الأولى.
وطبقة رجال الأعمال العائدين من المنفى والساعين للتربح من عملية السلام ومن شعبهم إضافة إلى رجال الأعمال الذين كانوا مقيمين في الضفة وغزة وكانوا يتربحون تحت الاحتلال قبل عملية أوسلو.
وبما أنه تم توقيع معاهدة أوسلو في أوج هيمنة النظام النيوليبرالي الدولي، فقد كان هدف تسهيل تربح رجال الأعمال الفلسطينيين “بوجود عدة برامج لتمكين النساء الفلسطينيات كي يصبحن سيدات أعمال” وربط الانتلجنسيا الفلسطينية بالمنظمات غير الحكومية هو ضمان جهاز إداري هزيل نسبياً داخل السلطة وجهاز أمني سمين وممتد لقمع أي مقاومة ضد إسرائيل خارج المنظومة.
وبينما لم يقم الإسرائيليون في أوسلو بأكثر من الاعتراف بـالمنظمة كممثل للشعب الفلسطيني، حيث أنهم لم يعدوا البتة بالسماح للفلسطينيين بإقامة دولة أو بالانسحاب من الأراضي المحتلة أو بالتوقف عن بناء المستوطنات، ناهيك عن تفكيك المستوطنات القائمة، أو بالاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير، فقد كان الدور المنوط بالسلطة الفلسطينية كمساعد ونائب للاحتلال هو وضع حدٍّ نهائي للانتفاضة وقمع أيّ مظهر من مظاهر المقاومة المستقبلية للإسرائيليين. وعلى الرغم من أن الطبقة السياسية واصلت اعتناق الأوهام بأنها ستحصل في نهاية المسار على دولة بانتوستان (أقامها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا للسود قبل سقوطه) كانوا سيتظاهرون لو حصلوا عليها بأنها دولة حقيقية كي يتمكنوا من الإبقاء على أي نفوذ قد تسمح لهم إسرائيل به، فلم يكن عند الإسرائيليين أية نية بمنحهم كياناً كهذا. فبعد أن انتهت مهمتها كسلطة انتقالية بقمع مقاومة الشعب الفلسطيني لإسرائيل عبر تنسيقها الأمني، وهي المهمة المركزية للسلطة التي وصفها محمود عباس بـ المقدسة، يشعر دونالد ترامب وإسرائيل اليوم بأن السلطة قد استنفدت دورها ولم يعد لها حاجة.
في هذا السياق أتتنا صفقة القرن. لا تمنح الصفقة السلطة الفلسطينية سوى دور واحد، وهو الدور ذاته الذي منحته معاهدة أوسلو لـمنظمة التحرير، والذي يتلخص بضرورة قبول السلطة بالصفقة وتسليم سلطاتها لرجال الأعمال الفلسطينيين (والعرب والأجانب) – وإلى سيدات الأعمال وإن كان نصيبهن أقل بكثير – وأن تحلّ طبقتها السياسية وتسلّم كل سلطاتها إلى أجهزتها الأمنية. فهدف الصفقة، شأنه شأن هدف معاهدة أوسلو التي تشكل صفقة القرن مرحلتها الأخيرة، هو أن كل ما يحتاج له الشعب الفلسطيني في كل مكان هو رجال الأعمال ورجال الشرطة وليس إنهاء الاستعمار الاستيطاني والاحتلال الإسرائيلي.
أما الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي قامت بقتل وسجن الفلسطينيين منذ عام 1994، فقد أثبتت بأنها مدرّبة بشكل ممتاز وبأنها تحظى بثقة الأميركيين وإشادتهم . ففي تشرين الثاني/نوفمبر عام 1994، فور دخولها قطاع غزة، قامت شرطة ياسر عرفات بقتل أكثر من ثلاثة عشر متظاهراً فلسطينياً وجرح مئتين لأنهم تجرؤوا على التظاهر ضد معاهدة أوسلو. وفي أثناء زيارته لغزة في عام 1995، أثنى نائب رئيس الجمهورية الأميركي آل غور على عرفات لتشكيل الأخير محاكم عسكرية لمحاكمة كل من تسوّل له نفسه من الفلسطينيين الاعتراض على أوسلو.
وبينما قامت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) بتدريب أجهزة أمن السلطة سرًا في البدء، إلا أن برامج التدريب الأميركية ما لبثت أن خرجت إلى العلن فيما بعد. فقد قام الفريق كيث دايتون الذي خدم كمنسق الأمن الأميركي لدى السلطة منذ كانون الأول/ديسمبر 2005 وحتى تشرين الأول/أكتوبر 2010 بالإشراف على تدريبهم وعلى الانقلاب الذي قاموا به في عام 2007 لإزاحة حكومة حماس المنتخبة – انقلاب فشل في غزة ونجح في الضفة. وقبل وصوله إلى الضفة، كان دايتون منشغلاً بالمشاركة في الحرب الأميركية على الشعب العراقي في عام 2003. وقد خلفه الفريق مايكل مولر الذي خدم حتى عام 2012 وخلفه بعد ذلك المشرف الحالي اللواء البحري بول بوشونغ.