الصحافة _ وكالات
يتفحص سعيد الجدياني رئيس النادي المغربي للمخطوطات والمسكوكات وسط مكتبته العامرة بالتحف الفنية بمدينة آسفي المغربية مصحفا صغيرا كأنه يراه لأول مرة ويقلب وريقاته الدقيقة بعناية كبيرة، ويدقق عبر مكبر خط النظر في خطوطه الجميلة مرة تلو الأخرى وهو يظهره لعدد من زائريه وأصدقائه.
ويقول سعيد الجدياني للجزيرة نت “جلوسي في ورشتي بين هذه المخطوطات التراثية وإعادة البحث في تاريخها ومصادرها مريح للنفس وملهم للسير في طريق العلم والعمل”.
ويعمل سعيد، ابن مدينة آسفي حاضرة المحيط الأطلسي المعروفة بصناعها المهرة، في صناعة الخزف الفاخر على جمع قطع تراثية وتحف يتجاوز عددها ثلاثة آلاف قطعة فنية مرتبة الأسماء والمصادر في سجل خاص.
ويجد المتجول بين مجموعته الشخصية كتبا متنوعة بأحجام وأشكال جميلة تصل في مجملها إلى أكثر من 70 كتابا تتوزع ما بين المصاحف القديمة وكتب الطب والفلك واللغة والشعر والبصريات وعلم المنطق، عمر بعضها ثلاثة قرون.
ويحكي سعيد، المعروف بولعه الشديد بالتراث، أنه أحب جمع النقود القديمة والمسكوكات الأثرية والطوابع البريدية منذ طفولته، ليجد فيه متعة كبيرة تظهر له الجانب المشرق من تاريخ المدينة والبلد وحتى تاريخ الإنسانية.
رحلة طويلة
يتحدث سعيد عن تحفه بكثير من الفخر والاعتزاز ويقول إن مصحفا صغيرا جدا تلقاه هدية من أخيه الأكبر هو الأقرب إلى روحه، ويعتبر نفسه محظوظا جدا لحيازته مخطوطا نادرا لا ترى خطوطه بغير مكبر الخط أو الميكروسكوب الضوئي ويعتبر خطاطه مبدعا حقيقيا.
ويفيد بأن الروايات الشفوية المتوارثة تُجمع على أن هذا المصحف الصغير خرج من صعيد مصر عبر أحد سكانها الذي قصد مكة للحج وأهداه لأحد الحجاج المغاربة، ويقول إن المسلمين يتبادلون الهدايا في البقاع المقدسة ويحرصون أن تكون من أنفس مما حملوا معهم.
ويعود سعيد ليتمعن من جديد غلاف المصحف الأرجواني المذهب وخطوطه الصغيرة، ويقول إنه وصل إلى المغرب في العشرينيات من القرن الماضي، لكنه أخرج مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية إلى فرنسا من ضمن مخطوطات كثيرة أصبحت تؤثث عددا من المتاحف العالمية.
ويروي كيف أن الباحث الخبير في المخطوطات والمؤرخ المغربي العلامة محمد المنوني ذكر أن خزانة مسجد القرويين بفاس مثلا كانت تحتوي على حوالي 24 ألف مخطوط لم يتبق منها سوى أربعة آلاف.
اعلان
ويقول الباحث في الخط المغربي والعربي الدكتور محمد البندوري للجزيرة نت إن عددا من المخطوطات المغربية النفيسة، ومنها مصاحف كتبها أمراء وملوك مغاربة توجد في المتاحف الفرنسية والإسبانية، وأن المغرب ما زال يتفاوض من أجل استرجاعها.
عودة
يتابع سعيد حديثه وهو ينظر مرة إلى كتبه القيمة ومرات متعددة إلى زائريه في ذلك اليوم المعتدل من نوفمبر/تشرين الثاني، و يقول إن رحلة هذا المصحف الذي بقي محتفظا به في مربع زجاجي محكم وموضوع في مجدول حريري أحمر لم تتوقف في فرنسا، فسرعان ما حالفه الحظ ليعود إلى المغرب.
ويحكي سعيد بأسف عن ضياع كتب قيمة، لكن سرعان ما تنفرج أساريره وهو يروي عن عدد من الوطنيين الغيورين بعد استقلال المغرب وكيف عملوا على استرجاع عدد من الكتب القيمة، سواء عن طريق الاقتناء أو بواسطة معارفه، ومنها المصحف الصغير الذي أعيد سنة 1968.
ويسأل الزوار سعيد عن نوع الخط المكتوب به المصحف وعن أدوات كتابته وعن الحروف الدقيقة جدا.
ويشير الباحث المغربي في التراث الإسلامي الدكتور عبد الحفيظ نيار للجزيرة نت إلى أن الخطاطين المسلمين تفننوا في كتابة المصحف الشريف بأحجام مختلفة، وتنافسوا في تجميله.
ويضيف أن المغاربة عرفوا أن مثل هذه المصاحف كانت تكتب بالإبر وبالاستعانة بمكبرات الحجم، مع تطور علم البصريات على يد ابن الهيثم، ويشرح الباحث محمد البندوري أن الخطاطين لا يتقيدون بخط واحد في نسخ الكتب والمصاحف، وأنهم يحرصون على التفنن في ذلك ليجعلوا من عملهم قطعة فنية فريدة.
خط مدمج
حين يضع الأكاديمي محمد البندوري المصحف الصغير صوب عينيه يندهش من صغر حجمه ودقة تفاصيل شكله، رغم أنه خبير في الخطوط المغربية والعربية، ويشدد على جدارة هذا المصحف بالدراسة المتأنية، ويقول إنه كتب بخطوط عربية متنوعة سواء ككلمات متفرقة أو في الكلمة الواحدة، ما يسميه أهل الاختصاص بالخط المدمج.
وأوضح أن التعمق في شكل الأقواس المزينة ونوع الورق المستعمل ونوع الحبر قد يحيل إلى صدر الإسلام أو إلى القرون المتأخرة وإلى البلاد التي كتب فيها المخطوط التراثي.
ويحرص سعيد أن يُبقي مصحفه الجميل إلى جانب مخطوط نادر آخر عبارة عن “كتاب دليل الخيرات” الموسوم بعبارات الصلاة والسلام على النبي محمد صلى الله عليه وسلم مكتوب باللغة التركية باللونين الأسود والأحمر.