الصحافة _ كندا
ذات يوم، كانت الصحافية الإسبانية باتريثيا ماجيدي تحمل صورة ذهنية بسيطة عن مخيمات تندوف: خيمة كاكية اللون، جنود مسلحون، وروايات إنسانية تختلط فيها السياسة بالبكاء. لم تكن تعرف الكثير، بل لا شيء تقريبًا. حتى جاءها ذلك السؤال البسيط: “هل تعرفين شيئًا عن تندوف؟” ولم تكن تدري أن هذا السؤال سيقودها إلى رحلة قلبت كل ما تعلمته رأسًا على عقب.
بدأت القصة بفضول مهني، وانتهت بيقظة إنسانية. قررت أن تذهب وحدها، دون بروتوكولات رسمية، وبدعوة من ممثل جبهة البوليساريو في إقليم الباسك. ما إن حطت قدماها في المطار العسكري، حتى فهمت أن شيئًا غير طبيعي يحيط بالمكان. كل شيء كان صامتًا بشكل مثير للريبة، وكل خطوة كانت تحت المراقبة. رجل يدعى “جيل” قيل إنه سائقها، لكنه كان بالأحرى رقيبًا لا يغفل.
منعت من إجراء مقابلات، وجرّت إلى حضور أعراس لا تعني لها شيئًا. وحين أصرت، وصلت إلى الهلال الأحمر، لكنها لم تجد شيئًا مما قيل لها. سيارات الإغاثة حُجبت، والمساعدات اختفت، والدواء الذي يُفترض أن يُوزع، كان يُباع في صيدليات يديرها أقرباء قادة الجبهة، بل حتى مدير المستشفى نفسه.
في المخيمات، لم تجد الفقر النبيل الذي يُسوَّق في الإعلام، بل وجدت تجارة كاملة تقتات على المعاناة: مياه مموّلة من الاتحاد الأوروبي تُباع للصحراويين، وأدوية مقدمة من بلديات إسبانية تُعرض بثمن باهظ. الصحراوي هناك لا يملك شيئًا. مجرد رهينة. من لا يرضخ للجبهة، يُطارَد. ومن يتحدث بحرية، يُسجَن.
في لقائها مع أحد الصحراويين، عرفت أن والده مات في الحرب مع المغرب، وأنه الآن مطارد لأنه يرفض الانتماء للبوليساريو. سجون، تعذيب، وتكميم أفواه… وكل هذا يُدار باسم “القضية”.
قررت أن تذهب إلى الجهة الأخرى، إلى المغرب، لا لتقابل مسؤولين، بل لتقابل صحراويين في مدنهم. وهناك كانت المفاجأة. العيون… مدينة لا تشبه ما قيل لها. مطاعم، طرق، مستشفيات، حياة مدنية عادية. سيدة صحراوية تصافح صديقتها غير الصحراوية وتضحكان، بلا توتر، بلا عداوة. وقالت لنفسها: “ماكدونالدز لا يُفتح في مناطق نزاع”.
اكتشفت أن المخيمات التي قيل لها إنها في العيون لم تكن سوى تندوف. لعبة أسماء مضلّلة، لتغليف الحقيقة بغبار التضليل.
في المغرب، تحدثت إلى صحراويين يحكمون أنفسهم، يشاركون في المجالس، يعرفون قبائلهم، ويتحدثون عن انتماء لا يفرضه عليهم أحد. قالت إن كل ما تعلمته عن النزاع انهار في لحظة صدق واحدة، لحظة مواجهة مع الواقع.
حين عادت إلى إسبانيا، واجهت حملات قذف، تهديدات، صمتًا قاتلًا، وشتائم في الشوارع. لكنها لم تتراجع. الوثائقي الذي أعدته، “من تندوف إلى العيون: طريق الكرامة”، صار لعنة عليها في بعض الدوائر، لكنه صار أيضًا ضوءًا لكثيرين ممن يبحثون عن الحقيقة.
قالت في كلمتها خلال ندوة بالرباط: “جبهة البوليساريو أصبحت شركة خاصة بتمويل عمومي إسباني. كل شيء هناك يُباع، من الدواء إلى الكرامة”. وذكرت سجن الرشيد، حيث يمارس التعذيب على من يجرؤ على قول “لا”.
لكنها أيضًا تحدثت عن المغرب، عن الكرم البسيط في وجبة الكسكس التي تُطهى ليوم الجمعة، لتُعطى لمن لا يملك. عن الأمان الذي شعرت به، وهي تتجول في الشوارع ليلاً. عن إنسانية لا تُرى في التقارير، بل تُعاش.
“كنت أظن أن المغرب هو العدو، وأن البوليساريو هي الضحية”، تقول، “لكنني عدت مقتنعة تمامًا بالعكس”.
ثم ختمت بكلمات لا تُنسى: “الصحافي الحقيقي، إن أراد الحقيقة، عليه أن يذهب وحده. أن يلمسها بنفسه. لا أن يكتبها من صالون مكيف. هذه ليست معركتي وحدي، بل معركة كل من يرفض أن يُستعمل الشعب الصحراوي كذريعة لتمويل الفساد والخراب.”
وهكذا تحولت باتريثيا ماجيدي من شاهدة على رواية، إلى شاهدة على الحقيقة.