مآلات التوحش الإسرائيلي وعجز السلطة

16 يوليو 2025
مآلات التوحش الإسرائيلي وعجز السلطة

الصحافة _ بقلم: الدكتور حسن العاصي أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

أثبت الأحداث والتطورات المتعلقة بالقضية الفلسطينية هشاشة القيادة الفلسطينية، التي تعاني من ضعف وعجز شديدَين. حيث لم تتمكن هذه القيادة طوال فترة حرب الإبادة التي تقوم بها إسرائيل على غزة، إلا من إطلاق التصريحات التي تدعو حركة حماس إلى الاستجابة لمقترحات تسليم سلاحها إلى السلطة الفلسطينية. فيما سوى ذلك فهي غائبة عن المشهد تماماً. حتى أنها لم تستطيع حماية الفلسطينيين في مدن وقرى الضفة الغربية التي تتوغل فيهما الآليات العسكرية الإسرائيلية قتلاً وتدميراً. حيث حول جنود الاحتلال الضفة الغربية إلى غزة ثانية.

وأصبحت المعاناة واقعاً مريراً لحياة الفلسطينيين اليومية في كل منطقة في فلسطين، وخاصة في الضفة الغربية حيث تشتد قبضة الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين، مع استمرار الاعتقالات التعسفية والمضايقات، بالإضافة إلى سياسة الاستيطان والتهويد التي تهدف إلى تفريغ الأراضي الفلسطينية من سكانها.

احتلال الضفة الغربية

تحتل إسرائيل الضفة الغربية، وهي جزء من فلسطين، بشكل غير قانوني منذ يونيو/حزيران 1967. ورغم الدعاية الإسرائيلية التي تحاول إعادة تعريف هذه المنطقة على أنها مجرد قطعة أرض “متنازع عليها”، فإن حقائق القانون الدولي واضحة في هذا الصدد. إن النظام الذي تُديره إسرائيل في الضفة الغربية، والذي يُسيطر على حياة أكثر من 2.9 مليون فلسطيني، هو في الواقع ديكتاتورية عسكرية.. والسلطة الفلسطينية مجرد نظام صوري؛ نظام دمية بلا سلطة حقيقية، وهو في نهاية المطاف تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي. الكيان السياسي الوحيد الذي يملك أي سيطرة حقيقية في الضفة الغربية هو الحكومة الإسرائيلية.

يجب على الفلسطينيين الحصول على إذن إسرائيلي للقيام حتى بأبسط الأمور الحياتية التي يعتبرها الناس في الديمقراطيات الحقيقية أمراً مسلماً به، بما في ذلك السفر بين البلدات والمدن، والطيران من مطار بن غوريون، أو عبور الحدود إلى الأردن المجاور. غالباً ما يكون السماح بهذه الأمور من عدمه رهناً بأهواء الجنود الإسرائيليين وأجهزة المخابرات.

علاوة على ذلك، يعيش الفلسطينيون في الضفة الغربية في ظل نظام فصل عنصري. هذا ليس مجرد تشبيه بجنوب إفريقيا في الماضي؛ بل هو حقيقة موضوعية في قوانين إسرائيل. هناك بالفعل العديد من أوجه التشابه مع ذلك النظام العنصري الأبيض السابق (بالإضافة إلى بعض الاختلافات المهمة)، حتى أن قدامى المحاربين في نضال جنوب إفريقيا ضد الفصل العنصري، بمن فيهم رئيس الأساقفة السابق “ديزموند توتو”Desmond Tutu قالوا إن الوضع بالنسبة للفلسطينيين أسوأ في بعض النواحي مما كان عليه بالنسبة لهم.

عندما يكون القانون المدني الإسرائيلي سارياً في الضفة الغربية، فإنه ينطبق فقط على المستوطنين اليهود غير الشرعيين الذين سرقوا واستعمروا منازل وأراضي الفلسطينيين لعقود من الزمن بازدراء القانون الدولي. في هذه الأثناء، يخضع جميع الفلسطينيين في الضفة الغربية للمحاكم العسكرية الإسرائيلية، التي نادراً ما يخضع لها اليهود الإسرائيليون.

إن “العدالة” العسكرية التي تُطبقها هذه المحاكم الصورية ليست عدالة على الإطلاق. فمعدل الإدانة في هذه المحاكم يبلغ 99.7%، مما يعني أن فرص الفلسطينيين في البراءة تكاد تكون معدومة. من ناحية أخرى، يفلت الجنود والمستوطنون الإسرائيليون، حرفياً ودون عقاب، من جرائم القتل التي يقتلون بها المدنيين الفلسطينيين.

في مئات الحالات الراهنة، يمارس النظام الإسرائيلي أيضاً ما يسمى “الاعتقال الإداري” ضد الفلسطينيين، ويحتجزهم في السجن لأجل غير مسمى دون تهمة أو محاكمة بناءً على “أدلة” سرية تُقدم إلى “قاضٍ” عسكري من قِبل وكالة أمنية إسرائيلية. حتى في حالات قتل الفلسطينيين التي تُنشر على نطاق واسع أمام الكاميرات، يفلت القتلة الإسرائيليون من العدالة. في كما حصل ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ حين حُكم على الجندي الإسرائيلي “إيلور عزريا” Elor Azarya بعقوبة رمزية بتهمة القتل غير العمد، ما يعني أنه سيقضي أقل من عام في السجن، وقد أصدر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عفواً عنه نظراً للدعم الشعبي الواسع الذي يحظى به القاتل في إسرائيل.

قتل عزريا فلسطينياً جريحاً بإطلاق النار عليه بهدوء في رأسه بينما كان الشاب مُلقىً على الأرض. ورغم أن هذه الجريمة نموذجية للطريقة المتعطشة للدماء والقاسية التي يتصرف بها الجيش الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، إلا أن هذه الجريمة تصدرت عناوين الصحف العالمية نظراً لتصويرها من قِبل متطوع فلسطيني في منظمة “بتسيلم لحقوق الإنسان”B’Tselem human rights group. وقد قُتل فلسطينيون آخرون بوحشية على يد إسرائيل بطريقة مماثلة، ولم يحظوا باهتمام يُذكر من وسائل الإعلام الدولية لأن العالم لم يشاهد. ولهذا السبب فقط، حُكم على عزريا بهذا الحكم المُخفف بشكل مثير للشفقة.

كان الاستعمار التدريجي للأراضي المحتلة على مر السنين جزءاً أساسياً من الديكتاتورية العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية. يتسارع هذا الوضع باطراد تحت قيادة أكثر حكومات إسرائيل يمينية تطرفاً على الإطلاق.

أحد الأحزاب اليمينية المتطرفة في الحكومة الائتلافية هو حزب البيت اليهودي، بقيادة وزير التعليم “نفتالي بينيت” Naftali Bennett. وهو مستوطن متعصب صرّح لقناة الجزيرة بأن القانون الدولي لا يُهم لأن كتابه المقدس يمنح إسرائيل حقاً إلهياً في كامل أرض فلسطين. لطالما اقترح حزبه أن تقوم إسرائيل رسمياً بضم المنطقة “ج” من الضفة الغربية، والتي تُشكل حوالي 60% من أراضيها. حجته هي أن المنطقة “ج” أكثر ريفية، وبالتالي أقل كثافة سكانية من الفلسطينيين. وبالتالي، يمكن منح الفلسطينيين صفة “المقيمين” دون تعريض “الأغلبية اليهودية” الثمينة التي تتوق إليها إسرائيل للخطر؛ فشعار “أقصى مساحة من الأرض، وأقل عدد من العرب” لطالما كان شعار الحركة الصهيونية.

وتعكس تصريحات وزير الأمن القومي الإسرائيلي “إيتمار بن غفير”Itamar Ben-Gvir التي تدعو إلى تسليح المستوطنين، وإلى للقتل العمد للفلسطينيين، وتصريحات وزير المالية المتطرف “بتسلئيل سموتريتش”Bezalel Smotrich الذي دعا إلى تجويع أهل غزة، وإلى ضم الضفة الغربية، الفكر الإيديولوجي لحكومة بنيامين نتنياهو الذي يكرس مشروع الدولة اليهودية على كل أرض فلسطين التاريخية، ويعطي الضوء الأخضر لعصابات المستوطنين لتصعيد الاعتداءات الإرهابية على الفلسطينيين

كان الضم الرسمي للضفة الغربية أمراً تتحفظ عليه القيادة الإسرائيلية سابقاً. ولكن من المؤكد الآن أن الحكومة الإسرائيلية تريد ضم الأرض الفلسطينية في كل شيء إلا الاسم، ولكن لا يريد الإسرائيليون الضغط الدولي الحتمي لمنح حقوق متساوية لملايين الفلسطينيين الذين يعيشون هناك، وهو ما يتطلبه الضم الرسمي. سيكون ذلك بمثابة كارثة للمشروع الصهيوني.

لكن الآن، أصبح الضم الرسمي للمنطقة “ج” أكثر احتمالية. في وقت سابق، تحرك الكنيست رسمياً للاعتراف بالعديد من المستوطنات التي كان قد اعتبرها سابقاً مشاريع عشوائية. حتى أن بعض النخبة الليبرالية في إسرائيل تتفق مع برنامج اليمين المتطرف.

وقد صرّح الكاتب الإسرائيلي أ. ب. يهوشوا لإذاعة الجيش الإسرائيلي بأنه ينبغي على إسرائيل منح “مواطنة كاملة أو جزئية” للفلسطينيين الذين يعيشون في المنطقة “ج”. وقال: “لا معنى للحديث عن دولتين”.

وكان المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر الإسرائيلي، المعروف اختصارا باسم “الكابينت” قد صادق الشهر الماضي على استئناف تسجيل ملكية الأراضي بالمنطقة “ج” من الضفة المحتلة، والتي تخضع لسيطرة إسرائيلية كاملة وتشكل نحو 61% من مساحتها.

وقسمت اتفاقية أوسلو -2 عام 1995 أراضي الضفة إلى “أ” وتشكل 18% وتخضع للسيطرة الفلسطينية بالكامل، و”ب” وتشكل 21% وهي تخضع لسيطرة مدنية فلسطينية وأمنية إسرائيلية، والنسبة الباقية منطقة “ج” وتقع تحت سيطرة إسرائيلية.

يكشف كل هذا عن حقيقةٍ متزايدة، وهي وجود دولة واحدة في فلسطين المحتلة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، وهي دولة فصل عنصري تحكمها إسرائيل وحدها. لقد انتهى “حل الدولتين”، وحان الوقت للبدء بالحديث عن كيفية القضاء على الفصل العنصري، وكيف يمكن لواقع الدولة الواحدة في فلسطين المحتلة أن يتحول إلى ديمقراطية حقيقية.

سياسة واقعية أم انهزامية؟

سياسي حول قضايا مصيرية مثل الاعتراف بالقرارين الدوليين242 و 338 ومحاولة البحث عن حلول مباشرة للقضية الوطنية الفلسطينية، تكون حلولاً مرحلية ،بديلاً عن ما هو تاريخي واستراتيجي في الأجندة الوطنية لكفاح الشعب الفلسطيني .

فبرز في البيت الفلسطيني تيار تبنى ما أطلق عليه الواقعية في تحقيق أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية، ونادى بإقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة يجري دحر الاحتلال الإسرائيلي عنها .

وبعد نقاش فكري وسياسي عميق تحول إلى صراع بين مختلف قادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها امتد قرابة عام، تمكن التيار الواقعي من تعزيز مواقعه في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية وداخل أطر م ت ف، وتحول من تيار كان يمثل الأقلية إلى تيار الأغلبية.

ولاحقا نجح في تحويل أفكاره من الحيز النظري داخل غرف الاجتماعات وتحويلها إلى سياسة عامة لمنظمة التحرير، حين أقر المجلس الوطني الفلسطيني في العام 1974 برنامج “النقاط العشر”، والذي عرف في حينها “ببرنامج السلطة الوطنية الفلسطينية المستقلة”.

منذ ذلك الوقت رفعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية هذا البرنامج في مواجهة الاتهامات التي كانت توجهه لهم بأنهم متطرفين وغير واقعيين. واستخدموه في التدليل على مرونتهم وواقعيتهم، وعلى استعدادهم المساهمة في المساعي الهادفة إلى إيجاد حلول سياسية عادلة وواقعية للصراع مع إسرائيل.

وفي حينها اعتقدت قيادة م ت ف ومعظم القيادة الفلسطينية أن الظروف والأوضاع الدولية مهيأة لانبعاث الكيان الفلسطيني الجديد، وقيام السلطة الوطنية على جزء من الأرض الفلسطينية .

لقد أكدت الأحداث اللاحقة ومسار الأحداث في المنطقة والعالم ،أن القوى الدولية المقررة، وبخاصة قطبي الحرب الباردة حينها الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية لم يكونا جادين في ايجاد حلول واقعية وعادلة لقضايا المنطقة وصراعاتها المستفحلة.

وإن كل منهما كان يسعى في تلك الفترة لتوظيف الصراع العربي الإسرائيلي لتعزيز نفوذه ومواقعه في المنطقة. كما أكدت أيضا أن ظروف وأوضاع أهل المنطقة أنفسهم لم تكن ناضجة للتوصل إلى أية حلول جدية لصراعاتهم العميقة.

ولادة اتفاق أوسلو

في ربيع العام 1991 أطلق الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب مبادرة يدعو فيها أطراف الصراع الفلسطينيون والعرب وإسرائيل ، إلى مغادرة ميادين القتال والحروب، واعتماد طريق السلام من خلال التفاوض المباشر لحل النزاعات المزمنة في المنطقة .
وهذا ما حصل، فقد التقى العرب في مدريد، ولاحقاً التقى وفد يمثل منظمة التحرير الفلسطينية سراً مع ممثلين عن الحكومة الإسرائيلية، وتوصلوا بعد مفاوضات عسيرة إلى اتفاق ” إعلان مبادئ” حول ترتيبات حكومة ذاتية فلسطينية انتقالية، عرف هذا الاتفاق فيما بعد باتفاق أوسلو.

جوهر هذا الاتفاق بشكل أساسي هو إقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لفترة خمس سنوات، تؤدي إلى تسوية دائمة على اساس قراري مجلس الأمن رقم 242 ورقم 338.

وهكذا في أجواء احتفالية غير مسبوقة، تم التوقيع في أيلول العام 1993 على هذا الاتفاق الشهير بين الفلسطينيين وإسرائيل في العاصمة الأمريكية واشنطن برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، على أن تتم مناقشة قضايا الحل النهائي بعد ثلاث سنوات وهي القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود والمياه .

غير أن هذا الاتفاق أغفل وضع جداول زمنية محددة للانسحاب الإسرائيلي من الضفة وقطاع غزة، كذلك سقط من الاتفاق أية آلية دولية تلزم إسرائيل لتنفيذ استحقاقاتها من الاتفاق، أنتج هذا الأمر وضعاً غريباً، فقد أغرق الجانب الفلسطيني في ما يسمى معالجة التفاصيل قبل معالجة جوهر المشكلة، وكان الاتفاق ملزماً للفلسطينيين بينما تنصلت إسرائيل من التزاماتها، الأمر الذي كرس الاحتلال بدلاً عن إزالته .

طوال الأعوام الماضية ظل رجال السلطة الفلسطينية يلهثون بسعار خلف جزرة الحل النهائي الذي لم يتحقق من بنوده شيء، بل على العكس تماماً، تنصلت إسرائيل من كافة التزاماتها من اتفاق أوسلو وكأنه لم يكن.

إن جزء من الشعب الفلسطيني الذي اعتقد أن تشكيل السلطة أنجاز لابد من حمايته والدفع به لتحقيق إنجازات أخرى، اكتشف أن هذا الاتفاق الذي أبرم مع إسرائيل لا يعبر عن أمنه ومصالحه ولا عن أهدافه الوطنية ، بل على العكس، وجد المواطن الفلسطيني نفسه أنه يعاني من سلطتين، سلطة الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية التي ألزمتها إسرائيل بالتنسيق الأمني معها ضد كافة النشطاء والمناضلين الفلسطينيين الأمر الذي أدى إلى اغتيال عشرات من خيرة أبناء شعبنا الفلسطيني ، واعتقال الآلاف منهم .

إعادة إنتاج الفساد

لقد أعادت السلطة الفلسطينية إنتاج نظام التنفيع الذي ورثته من منظمة التحرير الفلسطينية، وبدلاً عن المضي في بناء مؤسسات لمختلف القطاعات واعتماد مبدأ الكفاءة والجدارة، أصبحت علاقات المنفعة والمصالح الشخصية والولاءات هي السياسة المعتمدة لهيكل السلطة، وأصبحت هذه الطريقة أداة قوية وفاعلة في الاستيعاب للمنتفعين والمتسلقين والانتهازيين، ووسيلة أيضاً لإقصاء الشرفاء والمناضلين وأصحاب الكفاءة .

إن السلطة الفلسطينية أخذت تعمل على كسب ولاء الناس من خلال الحصول على مورد اقتصادي، الأمر الذي أدى إلى تضخم شديد في القطاع الحكومي العام للسلطة حيث وصل عدد موظفي السلطة حوالي 170,000 موظف تعتمد رواتبهم بشكل أساسي على المعونات الدولية. المصيبة أن 44% منهم يتبعون الأجهزة الأمنية وبالتالي يستحوذون على حوالي نصف الميزانية، بينما يا للسخرية لا يتم صرف سوى واحد في المئة على قطاع الزراعة على سبيل المثال. ساهمت هذه السياسة في مأسسة الفساد وانتشاره، وهو ما كانت إسرائيل تريده من خلال إنشاء سلطة بعد أوسلو تكون منتفعة وضعيفة تتحكم فيها إسرائيل من خلال الموارد من الموارد المالية.

تم توزيع المناصب في هيئات وإدارات السلطة على المحسوبيات والمقربين، حتى المعارضة السياسية من مستقلين ويساريين وإسلاميين لم تستثنى من هذه الامتيازات، فتم دمج الآلاف منهم في مؤسسات السلطة الفلسطينية، ومنحوا مناصب في القطاع الحكومي مقابل ولائهم السياسي .

من جهة أخرى برزت في النظام السياسي الفلسطيني في الداخل ظاهرة زواج المصلحة بين رجال الأعمال ورجال السلطة وهذا هو الشكل الأكثر انتشاراً للفساد، يستمد قوته من تمتع النخب بالحصانة السياسية والاجتماعية والقانونية ،فامتلأت الحسابات المصرفية لآلاف الفاسدين بالمال الفاسد .

كما أن استغلال المناصب لتحقيق مكاسب شخصية وعشائرية يشكل ظاهرة واضحة في مؤسسات السلطة، إبرام صفقات مشبوهة، استخدام موارد السلطة والوزارات للأغراض الشخصية، سرقة الممتلكات الوظيفية وإهدار المال العام ، حتى أن إحدى عمليات التدقيق والرقابة أثبتت أن حوالي 40% من ميزانية السلطة قد أسيء استخدامها .

إسرائيل ليست بعيدة عن هذا الفساد، بل على العكس هي تساهم في تعزيز هذا الفساد في السلطة الفلسطينية وتحسن استغلاله فيما بعد ،وتحاول إشغال الرأي العام بهذا الفساد كي تصرف أنظار العالم عن الآثار المدمرة التي تلحقها سياساتها العدوانية بالبنية الاقتصادية والتنمية الفلسطينية، وما تقوم به إسرائيل من تدمير ممنهج للاقتصاد الفلسطيني .

من أهداف عظيمة إلى حائط مبكى

لقد أدى هذا الوضع الشاذ إلى جملة من التغيرات في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها التي انحدرت إلى مستويات غير مسبوقة من الضعف والهشاشة، وتراجع الشعارات والأهداف الثورية التي طالما تغنى بها الشعب الفلسطيني وميزته عن باقي شعوب الأرض التي استحق احترامها وتقديرها ومساندتها نتيجة لكفاحه والتضحيات التي قدمها عموم الشعب الفلسطيني في طافة أماكن تواجده وجعلته يحظى بكل تلك الهالة المقدسة التي كان يعتز بها .

لكن الفلسطيني ذاته أخذ يشعر بالغضب والحزن والإحباط الشديدين بسبب ما وصلت إليه قضيته الوطنية التي أصبحت تهمة للمناضلين، ومطية للمتسلقين الانتهازيين من الفلسطينيين أنفسهم قبل غيرهم، كما تحولت القضية إلى ميدان للمزايدات لدى البعض، وفرصة لشتم وتحقير الشعب الفلسطيني وقيادته، وتعداد محاسن إسرائيل لدى البعض الآخر .

ثمة مفارقات عجيبة تحصل في خلفية المشهد السياسي المتعلق بالقضية الفلسطينية، ففي الوقت الذي يزداد حجم ومستوى التضامن الأوروبي والعالمي مع الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، نشهد تراجعاً عربياً ملحوظاً على المستويين الرسمي والشعبي في التضامن مع نضال الشعب الفلسطيني ودعم قضيته الوطنية ، التي هي بالأساس قضية العرب الأولى وقضية عموم المسلمين .

فما الذي أوصل أهم قضية تحرر وطني في التاريخ إلى هذا المستوى الذي لا يسر أحداً ولا يدلل على عافية، ولماذا جنح بعض العرب إلى مستوى غير مسبوق من الحقد على الفلسطينيين، وهل نحن أمام واقع جديد في التعامل مع القضية الفلسطينية ، أم أنه برزت أولويات جديدة أمام الشعوب العربية، أم أنه انعكاس طبيعي لواقع الحال الفلسطيني والعربي الذي يشهد حالة متعاظمة من التردي والسقوط والانحدار على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية، الأمر الذي جعل وزير العدل الإسرائيلي أن يطلب سراً من إحدى عشرة دولة عربية عدم تقديم أية تبرعات مالية إضافية للسلطة الفلسطينية، يبدو خبراً طبيعياً حين تم تسريبه، وتعاملت الدول العربية معه بصمت وتجاهل بعد أن انصاعت الحكومات العربية إلى المطالب الإسرائيلية دون خجل، وهكذا وضع الأشقاء العرب قرارهم بدعم القدس العربية بمبلغ مليار دولار في سلة النفايات العربية، ولم يكلف الأمين العام للجامعة العربية نفسه عناء تكذيب هذا الخبر حفاظاً على ماء وجه العرب .

مما لا شك فيه أن هناك أسباب ومسببات عديدة ومختلفة وراء إيصال قضية سامية وعادلة كالقضية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه، إلا أنه أيضاً كل تلك الأسباب والعوامل ما كانت لتكون مؤثرة وفاعلة لولا الدور السلبي للقيادة الفلسطينية ومواقفها المتخاذلة وسعيها وراء السلطة وامتيازاتها بدلاً من تعزيز ودعم فكرة النضال والكفاح ضد المغتصب، وبالرغم من أننا لسنا في وارد تقييم تجربة الثورة الفلسطينية ، إلا أن ما نشهده اليوم من إحباطات وانهيارات وانسدادات أمام القضية الوطنية الفلسطينية لم يكن وليد المتغيرات الأخيرة التي تشهدها المنطقة، إنما هو نتيجة طبيعية وكارثية لكل السياسات التي انتهجتها القيادة الفلسطينية والخيارات التي اقدمت عليها منذ انطلاق العمل الفلسطيني المسلح في منتصف ستينيات القرن الماضي .

إن مجمل هذه السياسات أدت فيما أدت إلى تقزيم منظمة التحرير الفلسطينية، وإضعاف العامل الفلسطيني برمته، وتحويل قضية فلسطين الوطنية إلى حائط مبكى، وظهور قيادات فلسطينية ضعيفة ومخترقة من قبل العديد من أجهزة المخابرات وخاصة الأمريكية والإسرائيلية. أنيطت بهذه القيادات مسؤولية الحل والربط فيما يتعلق بمستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته، وهم المسؤولين مسؤولية مباشرة عن تقليص الحقوق الفلسطينية وضياعها، من خلال حجم التنازلات المرعب الذي قدمته هذه القيادة الفلسطينية للجانب الإسرائيلي بدءًا من التنازلات التي قدمت للوصول إلى اتفاقية أوسلو الملعونة ، وصولا إلى كافة التنازلات التي مازالت تقدمها القيادة الفلسطينية في سبيل محافظتها على مناصبها وامتيازاتها على حساب مصالح شعبنا الفلسطيني وتضحياته، هذه التنازلات جعلت إسرائيل تتنمرد على السلطة الفلسطينية بل وتتجرأ وتطلب من القيادة الفلسطينية الضعيفة الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل.

استقواء السلطة بأنظمة الخنوع

هذه القيادة التي تستقوي على شعبها وعلى الفصائل الأخرى بالأنظمة العربية التي كانت داعم رئيسي لنضال الشعب الفلسطيني ولقضيته الوطنية مالياً وسياسياً، فأصبحت الثوابت الفلسطينية والعربية تجاه الصراع مع إسرائيل تُنتهك وتحذف بمباركة عربية استعاضت بها القيادة الفلسطينية لغبائها عن الغطاء الشعبي الفلسطيني لتمرير سياسات التنازل والاستسلام، تلك الأنظمة العربية مغلولة اليد أمام النفوذ الأمريكي والإسرائيلي، ولا تريد سوى السلامة حتى لو كانت على حساب القضية الفلسطينية، لكنها تصبح شرطي بعصا حين تستقوي بها السلطة الفلسطينية لكسر إرادة قوى المعارضة الفلسطينية الرافضة لكل سياسات السلطة التنازلية، هذا الاستقواء في الحقيقة -إضافة إلى عوامل أخرى- هو ما جعل الأنظمة العربية نفسها تستقوي على القضية الفلسطينية وعلى الفلسطينيين أنفسهم، وإلى إخضاعهم إلى التجاذبات المتنافرة في السياسة العربية.

لقد سقطت السلطة الفلسطينية في مستنقع الفساد والاستنفاع، وانكشفت عورتها أمام الجميع، وكل أوراق التوت والتين لا تستطيع ستر عورات سلطة هجينة، وليدة اتفاقيات مذلة، حولت جميع الحقوق الثابتة التاريخية للشعب الفلسطيني إلى” مشاكل قابلة للتفاوض” وحولت قضية وطن محتل ومغتصب إلى خلاف على تقاسم نفوذ فيما بينها، وتتبنى سياسة التنسيق الأمني مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، هي العقلية ذاتها التي تطاولت بالكلام بداية على المناضلين والأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية عام 1988 أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى تحت شعار “هجوم السلام الفلسطيني” وتحول هذا الهجوم فيما بعد إلى تآمر لضرب الحركة الوطنية الفلسطينية، وقامت أجهزة أمن السلطة الفلسطينية المحترمة باعتقال قيادة وكوادر ونشطاء المقاومة الفلسطينية، وتعاونت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي لاغتيال مناضلين.

السلطة حاجة إسرائيلية

إن السلطة الفلسطينية التي لا سلطة لها على نفسها اساساً، هي ليست أكثر من أداة وظيفية لدى الاحتلال الإسرائيلي، وقد أصبحت حاجة إسرائيلية لضرب المشروع الوطني. فاتفاقيات أوسلو التي أنجبت السلطة أنهت الحكم العسكري الإسرائيلي، لكنها لم تُنه الاحتلال نفسه، وبينما انشغلت السلطة بإدارة الحياة اليومية، تحول الاحتلال إلى استعمار نظيف قليل التكلفة حيث تتولى أجهزة السلطة الفلسطينية كافة الملفات القذرة، تتابع إسرائيل مصادرة الأراضي وفرض الحقائق على الأرض .

لذلك لا بد من إسقاط هذه السلطة لإنهاء عبثية مسار التفاوض مع إسرائيل الذي اثبت عقمه، ولوضع إسرائيل أمام مسؤولياتها كاملة كسلطات احتلال تجاه الشعب الفلسطيني، وحتى تكف السلطة عن كونها غطاء لهذا الاحتلال.

ومن جهة أخرى لوضع المجتمع الدولي والأطراف الراعية لعملية السلام أمام استحقاقاتهم الموضوعية في فشل مسار التسوية السياسية، وهذا يجب أن يؤدي إلى اعتبار أن شعبنا الفلسطيني يرزح تحت الاحتلال ومن حقه مقاومة هذا الاحتلال وفق المواثيق الأممية.

إسقاط السلطة سوف يعيد الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية التي قزمها رجال السلطة وجعلوها ظل عديم الفعالية تابع لهم بعد أن قاموا بإفراغ المنظمة ومؤسساتها من دورها الوطني باعتبارها حاضنة المشروع الوطني الفلسطيني .

وهذا من شأنه أن يساهم في تقوية الموقف الفلسطيني الذي أضعفه زج السلطة بالرقم الفلسطيني في مفارقات العرب السياسية، فانتقلت القضية الفلسطينية بقدسيتها من حالتها في الضمير والوجدان العربي والأممي إلى رقم ضعيف في الجامعة العربية .

إن هذه السلطة المتخمة بالفساد السياسي والأمني والسلوكي والأخلاقي، التي حولت القضية الفلسطينية إلى ممسحة لبعض الأنظمة العربية وسياساتهم وصفقاتهم، سوف يذكرها التاريخ على أنها سلطة متهمة ومدانة بهزيمة شعبها وقضيته الوطنية، في عالم لم تعد تعنيه كثيراً قضايا الضمير والحق والعدل، بل يلتفت إلى من يملك قوة الفعل والتأثير في مجريات التاريخ .

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص المحتوى والإعلانات، وذلك لتوفير ميزات الشبكات الاجتماعية وتحليل الزيارات الواردة إلينا. إضافةً إلى ذلك، فنحن نشارك المعلومات حول استخدامك لموقعنا مع شركائنا من الشبكات الاجتماعية وشركاء الإعلانات وتحليل البيانات الذين يمكنهم إضافة هذه المعلومات إلى معلومات أخرى تقدمها لهم أو معلومات أخرى يحصلون عليها من استخدامك لخدماتهم.

اطّلع على التفاصيل اقرأ أكثر

موافق