لجنة تقصّي أم لجنة استطلاع… حين تُعطَّل الرقابة

11 أبريل 2025
لجنة تقصّي أم لجنة استطلاع… حين تُعطَّل الرقابة

الصحافة _ بقلم: محمد أبودرار

قضية الدعم العمومي المخصص لمربي المواشي، والتي بلغت وفق مصادر غير رسمية حوالي 13 مليار درهم، دون أن تترك أثراً ملموساً على الأسعار، أعادت إلى الواجهة سؤالاً جوهرياً حول مدى قدرة البرلمان المغربي على ممارسة وظيفته الدستورية في الرقابة والمحاسبة، في ظل اختلال سياسي بنيوي فرضه منطق الهيمنة العددية.
مبادرة المعارضة للمطالبة بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق لم تكن سوى الحد الأدنى من التفاعل السياسي المسؤول مع فضيحة تمس المال العام.
كما أنها كانت أيضًا خطوة سياسية محسوبة، سعت من خلالها المعارضة إلى فضح تواطؤ الصمت وغياب الإرادة الحقيقية للمساءلة داخل المؤسسة التشريعية.
ومن المعروف أن المبادرات الرقابية في النظام الدستوري المغربي ليست مفتوحة على المطلق، بل يُحدد الدستور نصابها بوضوح:
لجنة تقصي الحقائق (ثلث الأعضاء – الفصل 67)،
ملتمس الرقابة (خمس الأعضاء – الفصل 105)،
الطعن في دستورية القوانين (خُمس الأعضاء – الفصل 132).
لذلك، فإن طلب المعارضة لم يكن خطوة معزولة أو استعراضية، بل نتيجة طبيعية لمشاورات ومفاوضات سبقت الإعلان، ويُرجَّح أن اللجوء إلى الرأي العام جاء بعد اصطدام المعارضة برفض واضح من مكونات الأغلبية للانخراط في المبادرة.
لكن جوهر الإشكال لا يتوقف عند العجز العددي، بل يمتد إلى مقاربة سياسية تُفرغ البرلمان من جوهره كمؤسسة رقابية، وتحوله إلى ذراع تابعة للسلطة التنفيذية.
فبدلاً من أن يؤدي البرلمان دوره كممثل للشعب حامل لهمّ الرقابة والتقويم والتوجيه، انزلقت الأغلبية نحو انبطاح تام أمام الحكومة، مكتفية بدور “الداعم الآلي” بدل أن تكون ضامناً لتوازن السلط.
وفي رد فعل باهت على خطوة المعارضة ، انخرطت الأغلبية في مسار تشكيل لجنة استطلاعية مؤقتة، استناداً إلى المادة 142 من النظام الداخلي لمجلس النواب، وهي آلية استعلامية محدودة تُعنى بجمع المعطيات، دون أن تملك صلاحيات المساءلة أو الإلزام أو التوصية باتخاذ قرارات،
ولا ترقى بأي حال من الأحوال إلى مستوى لجنة تقصي الحقائق، التي تُعد آلية دستورية ذات قوة قانونية، وتُرتب آثاراً حقيقية قد تصل إلى إحالة نتائجها على الجهات القضائية أو على المؤسسات المعنية، إذا اقتضى الأمر.
وهكذا، بدل أن يكون البرلمان صوتاً للمساءلة والمحاسبة، أضحى أداة للمراوغة السياسية، وبدل أن يُفعَّل النص الدستوري لخدمة الصالح العام، أصبح يُوظَّف لحماية الاصطفافات السياسية والمصالح الضيقة.
وفي هذا السياق، لا تقتصر مسؤولية الأغلبية على تعطيل الرقابة، بل تمتد إلى توفير غطاء سياسي لانحياز حكومي واضح لفائدة لوبيات اقتصادية، تُخدم مصالحها عبر القوانين المالية والقرارات العمومية.
وما فضيحة دعم مربي المواشي سوى نموذج مكشوف لهذا التواطؤ الصامت، حيث صُرفت أموال طائلة دون شفافية أو أثر فعلي، في ظل صمت حكومي وتواطؤ برلماني يحمي، بدل أن يُحاسب.
ولعل الجذر الحقيقي لهذا الخلل، هو تركيبة التحالف الحكومي ذاته، الذي جمع بين الأحزاب الثلاثة الأولى انتخابياً، بما فيها الحزب الثاني، الذي كان يُفترض – وفق أعراف الممارسة الديمقراطية عالمياً – أن يتجه نحو قيادة المعارضة، لا أن يلتحق بحكومة متغولة تُغلق الفضاء الرقابي وتحاصر صوت التوازن.
ويجب التذكير هنا أن المبادرات الرقابية ليست امتيازاً سياسياً لطرف دون آخر، ولا ينبغي التعامل معها بمنطق الحسابات الحزبية ، أو أغلبية و معارضة ، أو موازين الربح والخسارة، بل باعتبارها واجبات مؤسساتية ودستورية تهدف إلى حماية المال العام وتعزيز ثقة المواطنين في ممثليهم.
فحين تُربط الرقابة بمنطق الأغلبية والمعارضة، تفقد مضمونها الديمقراطي، وتتحول من صمّام أمان إلى أداة انتقائية تُستخدم حسب الظرف والموقع.
إن منطق الحكم بأغلبية عددية ساحقة دون ضمان الحد الأدنى من التوازن الرقابي، يُفرغ الديمقراطية من جوهرها، ويحوّل المؤسسات من فضاء للمساءلة إلى غرف مرافقة للسلطة تُصفّق أكثر مما تُحاسب.
ومن يرفض اليوم تمكين المعارضة من أدواتها الدستورية، عليه أن يتذكر أن السلطة لا تدوم، وأن المعارضة قد تصبح غداً موقعاً له.
فالسياسة الرشيدة هي التي تُصلح اليوم، لا تلك التي تندم غداً.
أقول هذا انطلاقًا من تجربة شخصية، إذ كنتُ رئيسًا للفريق النيابي الأول في المعارضة، ولامست عن قرب – وفي الكواليس – كيف كانت المبادرات الرقابية تُجهض بفعل قوى الممانعة داخل الأغلبية السابقة.

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص المحتوى والإعلانات، وذلك لتوفير ميزات الشبكات الاجتماعية وتحليل الزيارات الواردة إلينا. إضافةً إلى ذلك، فنحن نشارك المعلومات حول استخدامك لموقعنا مع شركائنا من الشبكات الاجتماعية وشركاء الإعلانات وتحليل البيانات الذين يمكنهم إضافة هذه المعلومات إلى معلومات أخرى تقدمها لهم أو معلومات أخرى يحصلون عليها من استخدامك لخدماتهم.

اطّلع على التفاصيل اقرأ أكثر

موافق