الصحافة _ بقلم: طالع سعود الأطلسي
عراقة الدولة المغربية، المُشْبَعَة بتاريخ طويل ومُتدفِّق في بنياتها وثقافتها، ومنها إلى النسيج المجتمعي الذي يحْضنُها وترعاه، لها آلاف الشواهد والتجليات في التراث المادي واللامادي وفي الآثار التاريخية وفي عافية الحكامة الملكية للمغرب. من كُلِّيات هذا المنحى في الملَكية المغربية، توقفتُ على جزئيات نوعية دالّة من الرواق القضائي للدولة، حواها كتاب هام، صدر عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فاخرٌ في شكله ونفيسٌ في مضمونه.
الكتاب دوّن اهتمام ملوك الدولة العلوية بالقضاء. ولتنوّع ما توصّل إليه مُعدّوا الكتاب، من ظهائر ورسائل، جاوز تاريخ الشأن القضائي وما جاوره، إلى ما يُمكن اعتباره إطلالة تاريخية، ولو موجزة، على بعض أروِقة الملكية المغربية، في أصالتها، ورعايتها لالتزامات البيعة التي جمعتها بالشعب المغربي… وأساسًا في استمراريتها التاريخية المتفاعلة فيها إسهاماتُ دُوَلها وملوكها…
ملوك هذا القرن من الدولة العلوية، توفّرَت للكتاب الوثائق التي تفصِّل اهتمامهم بالشأن القضائي، خاصة منهم الملِكيْن الراحليْن محمد الخامس والحسن الثاني والملك محمد السادس. وليس الأمر كذلك، فيما تعلق بتأريخ الاهتمام القضائي لدى ملوك آخرين، بَدْءًا من المولى اسماعيل (1672-1727) وإلى السلطان مولاي عبد العزيز (1896-1908) … ما استوْجب عناءًا وكَدًّا في التنقيب عن الوثائق المُتصلة بالموضوع.
الأستاذ امْحمد عبد النباوي، الرئيس المنتدَب للسلطة القضائية والرئيس الأول لمحكمة النقض، المشرف على إنجاز الكتاب، أشار في مُقدّمة المؤلف إلى الصعوبات التي اعترضت الحصول على الوثائق، بسبب ضياع العديد منها في القرون الماضية لظروف عدة، من بينها الأحداث والكوارث الطبيعية، أو تعرُّض تلك الوثائق للتلَف بسبب ظروف الحِفْظ، فضلا عن أن القضاة كانوا يحتفظون بها كوثائق شخصية خاصة (لأن القاضي كان له كيان خاص).
وقد ساعد على تجميع مُحتوى الكتاب الرجوع إلى كتُبٍ ووثائق الخزانة الملكية والمديرية الملكية للوثائق. فضلا عن أرشيف الخزانة الوطنية في تطوان وأرشيف بعض المحاكم… وهذا يُحيل على ما يملكه المغرب من نَفائس، من وثائق، دالّة على عراقة تاريخه وعلى التشكُّل الطويل، عبر تعاقُب الدوَل وتوالي الملوك، لثقافة الدوْلة ومرجعياتها وآلياتها… ومع ذلك، ومع ما هو متوفِّر من فعالية جهود المؤسسات التوثيقية وثراء البحث التاريخي، تنكشف عند كل تنقيب في تاريخ الوقائع والمؤسسات حاجات جديدة للمزيد من الإضاءات لظلال ومسالك في الرصيد التاريخي لهذا المغرب… وذلك ما حاوله، وأضافه، هذا المصنَّف النوْعي في استقراء التطوُّر التاريخي لترسيخ ملوك الدولة العلوية المغربية للقضاء ضمن روافعها، “ولمدى العناية والاهتمام الرّاسخ على مرِّ العصور من ملوك الدولة العلوية الشريفة لقضائهم بربوع المملكة وحرصهم الدائم والمستمر على الاهتمام بالمنظومة القضائية المرعية لتوفير العدْل للرّعايا والمواطنين” كما أوْرد الأستاذ محمد عبد النبوي في تقديمه للكتاب.
في السياق، أنتقي من الكتاب ثلاث حالات من قرارات بعض ملوك الدولة العلوية، في ظَني أنها مُميزة ودالة على الانشغالات النوعية لملوك المغرب، اخْتمرَت في التاريخ وتواصلت إلى هذا الحاضر…
السلطان مولاي إسماعيل (1672-1727)، راسل سنة 1698 ملك إسبانيا، كارلوس الثاني، في موضوع مبادلة مائة سجين نصراني (في نص الرسالة) بخمسمائة أسير من المسلمين. ويقترح عليه أن يسلِّمه خمسون (نصرانيا) مُقابل “خمسة آلاف كتاب عن كل نصراني من كتب الإسلام الصحيحة المختارة المثقفين في خزائنهم بإشبيلية وقرطبة وغرناطة…”، كما ورد في نص الرسالة، وصورتها في الكتاب.
موضوع الرسالة مُجاوِر للشأن القضائي، ويتعداه إلى الحقول الدينية، الثقافية والسيادية. الملك العلوي هنا يحرص على استعادة كنز ثقافي، بحمولة دينية، هو مِلْكٌ للدولة المغربية. تلك الكتب كانت في باخرة، سَطا عليها قراصنة، سنة 1614، وحوّلوها إلى دير “الإسكوريال”، غير بعيد عن مدريد، والخزانة تلك كانت في مِلكية السلطان مولاي زيدان السعدي (ابن أحمد المنصور الذهبي). وهي التي شكلت نواة مكتبة الإسكوريال الشهيرة اليوم… الخزانة زاخرةٌ بالمخطوطات الأصلية النفيسة للعشرات من أعلام علماء المسلمين، يكفي أن نذكر من بينهم ابن خلدون وابن سينا وغيرهما كثير.
وقد استمرت مُحاولات استعادة تلك الكتب، وضمنها محاولة السلطان مولاي إسماعيل العلوي، وإلى السلطان محمد بن عبد الله، في إلحاح من الدولة المغربية على ما اعتبرته ممتلكا للمغرب، وليس فقط للسلطان السعدي… وهو مِلك ثقافي ومَعرفي بحمولة دينية، والملكيات المغربية أوْلت اهتماما بالغا للثقافة في بُعديْها الديني والمعرفي، كما تدل على ذلك صلات ملوك المغرب بالفقهاء والعلماء والأدباء المعاصرين لهم… ويستمر ذلك من أساسات الملكية المغربية إلى اليوم.
ومن الكتاب أيضا، نقف على رسالة للسلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام (1822-1859)، وهي موجهة إلى “خُدَّامنا أهل الرباط كافة”، يُعلن فيها لهم عن براءتهم من ادِّعاء عامله على المدينة “بأنكم قمتم في الفتنة وحملتم السلاح وتهدَّدْتم على العامل… وأردنا عقوبتكم”… فلما تبين الأمر، ثَبت لديْه براءتهم من تلك الفتنة، و”إنما تشكون من العامل لما لحقكم منه من ضرَر وذكَر أنَّ أهل البلاد كلُّهم يشكون به حتى النساء والصبيان واليهود فقد زال ما بقلبنا عليكم”. وتضيف الرسالة بأن السلطان قرَّر مُعاقبة العامل وعيَّن بدَلَهُ قاضيا، عاملا جديدا…
هي رسالة دالة على فضيلة الاعتذار، وعلى التحرّي قبل القرار، وعلى المَناعة من الوِشاية والدّسيسة، وطبعا دالة أيضا على حِرص السلطان على العدل والإنصاف وإدارة حكمه بما لا يضر شعبه…
العينة الثالثة من حكامة الدولة النوعية لدى ملوك الدولة العلوية، هي ظهير شريف (قرار) للسلطان مولاي الحسن الأول (1872-1894) بشأن تعيين قاضي جديد، أو آخر، بمدينة مراكش، سنة 1876، الظهير يحدد للقاضي مَهامه ويوضح له مرجعه الديني والقيمي… حيث “أذِنّا له في فصل الخصوم وتصَفُّح الرسوم والحكم بالمَشهور من مذهب الامام مالك المُقرّ والمعلوم واستخراج الحق من القوي للضعيف والتسوية في مجلس حكمه بين المَشرُوف والشريف فعليْه بتقوى الله وطاعته والتحري جُهد استطاعته ولَيْنًا ما ورد في حق أهل العدل من الوعد… وليعلم أن الله تعالى يراه وأن جميع أحكامه تُعرض في أُخْراه…”.
لا يحتاج مضمون القرار، إلى شرح. فهو واضح اللفظ، صريح المعنى ومُتأصِّل في الإلحاح على جوهر القيم الدينية، التي أطرت حكامة الدولة المغربية، وما القضاء إلا من أذرُعها ومن روافعها… أساسا قيم الانصاف ومُناصرة الضَّعيف والتسوية في مُعاملة المتقاضين، فضلا على استحضار الضمير الإيماني…
الكتاب خصّص حواليْ خَمسين صَفحة لما هو سائر عليه، الملك محمد السادس، من إنجازٍ عميق لإصلاح الحقل القضائي… عبر قرارات، خطاباتٍ رسميةٍ ورسائل ملكية لملتقيات ومنتديات مؤسساتية قضائية، وطنية ودولية، ويمكن إجمال المنجز الملكي، في كونه مندرج في المشروع الإصلاحي والتحديثي الذي اختطه الملك محمد الساس، منذ أن تقلَّد مسؤولية عرش المغرب سنة 1999 وإلى اليوم. والعنوان العريض لذلك المنجز هو تكريس استقلالية القضاء، دستوريا، قانونيا وسياسيا، وتحديث مؤسسات الحكامة القضائية، بجعلها من بين روافع حكامة الدولة، ولتمكينها هي نفسها من تأسيس شروط لياقتها، مرونتها وفعاليتها المجتمعية…
ولو لم يكتسب “المجلس الأعلى للسلطة القضائية”، الدَّفقة التحديثية التي تسري في شرايينه، القضائية والإدارية، اليوم، لما كان مُمكنا التفكير في التأصيل التاريخي لعلاقة الملكية بالقضاء… ولما كان هذا الكتاب الهام…