الصحافة – عبد المولى البقيش
إن الانتفاضة التي انطلقت شرارتها الأولى بمدينة جرادة نهاية 2017 و امتدت لما يزيد عن 6 أشهر، ماهي إلا تراكمات لوعي عمّالي طبقي، أي أنها إمتداد لإنتفاضات عمال مناجم الفحم منذ 1927، كرونولوجيا غُيِّبَتْ تماما من تاريخ المغرب، وسنحاول في هذا المقال توضيح تاريخ المدينة بشكل كامل، لأن من لا يعرف تاريخه محكوم عليه بالفناء لا محالة.
لقد إعتمدت الثورة الصناعية الكبرى- التي عرفتها البشرية- بشكل أساسي على انتاج الفحم، نظرا لكونه يشكل المادة الحرارية القوية متعددة الاستعمالات، سواء في صهر الحديد أو في انتاج الكهرباء أو في فروع صناعية شتى كإنتاج الإسمنت وفي معامل انتاج السكر .. الخ. ولعب الفحم دورا استراتيجيا هاما في تطور الصناعات خصوصا في فرنسا وإنجلترا وألمانيا، وقد أدى ارتفاع تكلفة إنتاج هذه المادة و زيادة الطلب عليها إلى الزحف نحو المستعمرات من أجل فتح المجال أمام إستغلال مناجم فحم جديدة بتكاليف جد منخفضة، لكن بانعكاسات جد وخيمة على عمال الشعوب المستعمرة..
ومع فرض الحماية الفرنسية على المغرب، انطلق التنقيب عن المعادن التي من بينها الفحم إبتداءا من سنة 1912. وفي دجنبر 1927 اكتشف البلجيكي اندري بريشان ، بمنطقة جرادة التي كانت خالية من السكان آنذاك، طبقة من الفحم الحجري، أظهرت التحليلات التي أجريت عليها في يناير 1928 أن الأمر يتعلق بفحم انتراست ذو القدرة الحرارية المرتفعة، هنا ستشكل مدينة جرادة المنجمية بالنسبة للمستعمر تلك الارض العذراء الغنية بالفحم ذو الجودة العالية و الإنفاق المنخفض، وفي هذه اللحظة التي بدأ فيها استغلال هذا الكنز الثمين فتح التاريخ صفحة جديدة من صفحاته اسمها “جرادة ” وبدأت المغامرة في باطن الأرض لاستخراج الفحم الحجري، ونظرا لان هذه المغامرة لا تتطلب خبرة أو شهادات مسبقة فإن شركات الفحم الاستعمارية المتعاقبة على جرادة حرصت على الاستغلال البشع للعمال مع سداد أجور زهيدة مقابل الجهد المبذول ، زد على هذا الاستغلال الاضرار الصحية، فنظرا لارتفاع نسبة ثان أكسيد الكاربون في الفحم فإن جسم العامل ورئتيه وقلبه وباقي أعضائه تتعرض لتسمم يومي وسرعان ما يصاب بمرض قاتل يسمى “السيليكوز”، كما أن العمل اليومي في آبار مناجم الفحم الحجري تعرِّض العمال للانهيارات والانفجارات والاختناقات، هذا ما خلف آلاف الضحايا والمعطوبين في جرادة، و نعلم أن مناجم الفحم الحجري تتطلب أعدادا كبيرة من العمال، حيث وصل عددهم الى ازيد من 6000 عامل¹، وكان يسود وسط هذا الكم الكبير من الطبقة العاملة المنجمية نوع من التضامن والتآلف هذا ما طور وعي هذه الطبقة، و وجعلها مع مرور الزمن تنظم نفسها وتشرع في المطالبة بحقوقها وبأجور أعلى تتناسب و المخاطر التي تتعرض لها، وتم التعبير عن هذا الوعي الطبقي بتأسيس أول تجمع نقابي² على مستوى المغرب “الاتحاد العام للنقابات المنجمية بالمغرب” (U.G.S.C.M) » حيث بدأ التجمع بالعمل السري سنة 1945 وخرج إلى العلن في رمضان 1946، وشكلت سنوات 1945 – 1948، فترة حافلة بالنضال والانتصارات المطلبية الكبرى، حيث أطلقت ثلاث شعارات⁴ إلتف حولها جميع العمال: “الأجر المتساوي في مقابل العمل المتساوي، والحق النقابي للجميع، ورفع الأجور والمرتبات”. وقد تمكنت النقابة من تحقيق مطلب رفع الأجور المحددة باللوائح عدة مرات: 45 % سنة 1945؛ 25 % سنة 1946؛ 10 % سنة 1947.
وبما أن البرجوازية مالكة المنجم تسعى دائما الى المحافظة على استمرار قيمة الأجور حتى تحافظ على معدلات فائض القيمة، فإنها لجأت الى إستعمال جهاز الدولة لقمع نضالات العمال بالحديد والنار، ويذكر التاريخ ان أوفقير قتل بالطائرات وبدم بارد مضربين عن العمل في مناجم الفحم بجرادة !! حيث أوضح المناضل الحقوقي والناشط الجمعوي محمد البطيوي، خلال حديثه عن تعرض المضربين عن العمل بمناجم الفحم الحجري بجرادة، أثناء الستينيات من القرن الماضي قائلا: « لا أعلم لما جيء بكل تلك القوة الهائلة إلى جرادة من مختلف الأجهزة “الأمنية” ، رغم أن عدد العمال كان ضئيلا، عُنِّف المضربون بالعصي والهراوات، وصوَّب رجال الأمن الرصاص في اتجاه المضربين بطريقة بشعة، لكن الأمر الأقصى الذي لن أنساه أبدا هو الطريقة التي كانت تقنص بها مروحيات تابعة “للأمن” المضربين عن طريق استعمال الرصاص الحي ». وأضاف البطيوي في حوار له مع يومية المساء³ قائلا: « .. ولا تنس أن هاته الأحداث تزامنت مع المرحلة التي كان فيها أوفقير يتحكم في كل شيء، ويقتل الناس بكل وحشية بالغة؛ فما فعله في جرادة من تقتيل بشع لمضربين كانوا يطالبون فقط بتحسين ظروف العمل، قام به في الريف قبل أربع سنوات، حينما دك الريف وقتل المئات من سكان المنطقة ببرودة دم بالغة ».
ويسجل تاريخ جرادة بمداد الفخر والاعتزاز سلسلة الإضرابات البطولية التي خاضها العمال في مواجهة تعنت البرجوازية/الباطرونا، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر اضراب سنة 1973، الذي قوبل بالقمع الوحشي والاعتقالات بالجملة وطرد العديد من العمال. وكذلك اضرابات صيف 1981 و1984 وصيف 1985 والتي كان يعتقل على اثرها العديد من العمال. ثم اضراب ابريل 1987 ودجنبر 1988 إنتهاءً بالإضراب والاعتصام البطولي سنة 1998، و كان رد الدولة على نضالات العمال دائما هو القمع والاعتقال والترهيب.
وقد شكل قرار إغلاق المنجم سنة 1998 نقطة انعطاف تغير معها كل شيء، فصرح ادريس بنهيمة وزير الطاقة والمعادن آذناك أن من بين أسباب اغلاق مفاحم جرادة، التكلفة الاجتماعية المرتفعة، ونتيجةَ الإضرابات العمالية المتكررة، وهو ما يرفع التكاليف وينقص من المردودية. و تم هذا الاغلاق بعد مفاوضات ماراثونية بين النقابات والشركة اسفر على “توقيع اتفاقية الاغلاق”⁵ التي تتضمن عدة بنود من بينها خلق بدائل اقتصادية لاعادة ادماج عمال مفاحم جرادة وتشغيل أبنائهم. لكن هذا البند لم يتحقق. وقد غادر منذ سنة 2000 الى غاية 2014 حوالي 20 ألف من ساكنة مدينة جرادة العاملين بالمنجم. وأكدت احصائيات سنة 2014 أن عدد سكان مدينة جرادة تقلص الى 43 ألف نسمة.
فأمام انسداد آفاق الشغل بمدينة جرادة وغياب البدائل الاقتصادية، ومع هذا الوضع لم تجد الطبقة العاملة المنجمية أمامها، سوى خياران احلاهما مرّ، فإما الهجرة نحو مدن أخرى ، أو اللجوء الى حفر تقليدي لآبار الساندريات ثم العمل على استخراج أكياس الفحم لبيعها عبر وسائط “البارونات” الى المركز الحراري بالمدينة، مقابل 60 درهم الى 80 درهم حسب المواسم ، في حين يبيع البارونات تلك الأكياس من الفحم الى المركز الحراري بالمدينة بمبلغ 800 درهم الى 1.200 درهم. وهنا يتأكد لنا بالملموس حجم الاستغلال في حق العامل الذي بالكاد يؤمن له ما يتقاضاه مقابل أكياس الفحم تجديد قوة عمله وإعالة عائلته.
وقد راكم برجوازيو/بارونات المدينة في ظرف وجيز على حساب عمال الساندريات الملايير، نتيجة ملكيتهم لرخص المقالع وبيعهم الفحم للمحطة الحرارية. وهنا يتجلى مجددًا مدى الاستغلال الوحشي الذي يتعرض له عامل الساندريات، فهو يشتغل بشكل عشوائي بدون أي تأمين أو تغطية، ومعرض للمخاطر داخل الآبار حيث كثيرا ما تقع حوادث مميتة أو تخلف عاهات مزمنة أو يصاب العامل بداء السيليكوز. ما جعل اغتراب العامل في هذه العملية أصبح مضاعفا لأن جهوده وانتاجه يستولي عليه البارونات والمركز الحراري والدولة المشرفة على العملية ككل.
وإذا اردنا إحصاء عدد ضحايا هذا الاستغلال فسنجد 47 شهيد قد سقطوا في صفوف العمال من سنة 2000 إلى 2019 إضافة إلى عاهات مستديمة و أمراض مزمنة، وشكلت كل هذه الشروط تراكما كافيا لانفجار الوضع. حيث تمظهر غضب الساكنة في البداية على شكل احتجاج على غلاء أسعار فواتير الماء والكهرباء واتخاذ قرار عدم سداد تلك الفواتير، وهو ما جعل السلطات تُقدم على قمع تلك الاحتجاجات وتلقي القبض على الناشطين من الشباب. لكن وفاة شقيقين في احدى الساندريات يوم 22 دجنبر 2017، أجج غضب ساكنة مدينة جرادة بكاملها، متذكرة تجاهل باطرونا مفاحم جرادة بتنفيذ بنود اتفاقية الاغلاق، وأن ما يحصل من وفيات وامراض وتفقير بالمدينة سببه هذا ذلك هذا التجاهل بدرجة أولى. لقد كانت الوفيات المتعددة وتجاهل السلطات لبنود الاتفاق واعتقال أبناء المدينة عقب احتجاجهم على غلاء أسعار الماء والكهرباء، بمثابة الأرضية التي تضفي المشروعية على الحراك الشعبي بجرادة الذي امتد من دجنبر 2017 الى غاية مارس 2018، فكانت الاحتجاجات يومية، أججتها حصول وفيات لاحقة، وحافظ السكان على سلمية الاحتجاج طوال المدة ، وسطروا مطلبي واقعي في مقدمته ضرورة إيجاد بدائل اقتصادية للمدينة، و محاسبة المسؤولين عن الوضع القائم في جرادة، إضافة إلى إعفاء الساكنة من أداء فواتير الكهرباء والماء.
وقد حاولت الحكومة في البداية إيفاد بعض أعضائها للتفاوض مع الساكنة وهو ما قام به كل من عزيز أخنوش وزير الفلاحة وعزيز الرباح وزير الطاقة الطاقة والمعادن، ثم بعد ذلك جاءت زيارة رئيس الحكومة سعد الدين العثماني الى مدينة وجدة مقدما عرضا حكوميا آخر لا يستجيب لمطالب ساكنة جرادة. ورغم تزكية العرض الحكومي من طرف عدد من الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية ورؤساء الجماعات المحلية وجمعيات المجتمع المدني. الا أن ساكنة مدينة جرادة رفضت ذلك العرض وتشبثت بمطالبها، وواصلت احتجاجاتها السلمية. وهذا ما أجج غضب الدولة وأمرت بقمع احتجاجات ساكنة جرادة واعتقال أبنائها الذين بلغ عدد المعتقلين منهم حوالي 96 معتقل ومحاكمتهم محاكمات صورية لأسباب مفبركة ، حيث وصلت الأحكام القاسية التي صدرت في حقهم إلى قرون من السجن، ليتم بعد ذلك إصدار عفو سياسي جماعي عنهم في نهاية هذا المقال يمكننا القول ان الحراك الشعبي الأخير ما هو إلا نقطة في مسار، لأن الاوضاع التي ولدت هذا الحراك لا تزال قائمة، و لان غرض باطرونا مفاحم جرادة كان هو استنزاف خيرات المدينة من الفحم على حساب سكانها، ولان الدولة لم تفكر في إقامة بدائل اقتصادية حقيقة بالمدينة، بل وظل هذا التحالف ينهب ويصرف فوائض القيمة المستخلصة من قوة عمل الكادحين بعيدا عن مدينة جرادة بدون حسيب أو رقيب .
المصادر :
1 : موسوعة ويكيبيديا “مدينة جرادة”
2 : مقال منشور في يومية المساء عدد 3878 بتاريخ 01/05/2019
3 : مقال منشور في يومية المساء ليوم الإثنين 30 يونيو 2007 ، ومنشور كذلك بجريدة فبراير نقلا عن المساء، مريمة مكيريمة ،
4 : عبد السلام أديب 12/10/2018 – الحوار المتمدن
5 : تم توقيع هذه الاتفاقية بين : الإتحاد العام للشغالين بالمغرب والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والاتحاد المغربي للشغل من جهة والحكومة من جهة اخرى بتاريخ 17/02/1998
6 : المندوبية السامية للتخطيط احصاء 2014