بقلم: عبد المجيد مومر الزيراوي*
إختلطَ الحابل بالنابل و أصبحت قضية القدس الشريف مجموعة قصَصِيَّة أو روايات هلامية ، كل رواية تُصاغُ سرداً من أجل تقديس مبالغ فيه لمرجعية “أبطالها” و معارك “شهدائها”.
و عن سبق إصرار و تعمُّد ، يَتَغافَلَ الكثير من كُتَّابِ “وحي القصص” عن التمعن المتين في عمق نصيحة الحكمة التي أفادَنا بها المغفور له بإذن الله الحسن الثاني قصد الإنطلاق من الواقع لإصلاح الواقع ، وَ لعل وَاقِع القدس الشريف لا يُمكن تفادي صراعِه الدموي المتوحش إلاَّ عبر إعتراف الجميع بحقوق الجميع في مدينة القدس، و الحوار من أجل كلمة سواء تجعل من مدينة القدس عاصمة عالمية لرسالات السَّلام .
و من عبق النصائح الحكيمة للملك الحسن الثاني – تغمده الله بواسع رحمته – ، نود تصحيح فهم المدارِك القاصرة عبر نقل القول أن قضية القدس ليست مشكلا سياسيًا أو استراتيجيًا .. لإِنَّ لَنَا كُلُّنَا حقوقًا في هذه المدينة المقدسة ، سواء كنا مسلمين أو يهودًا أو مسيحيِّين .
و بالتالي فالقدس الشريف الذي يُشَكِّل قِبلة مقدسة جامعة لقلوب و صلوات المؤمنات و المؤمنين ، لا يمكن أن يَتَحَوَّلَ إلى قضية صراع ديني -أيديولوجي-سياسوي بين أطراف جعلت من القضية الفلسطينية ورقة قابلة للتوظيف الحاكمي الشعبوي قصد تحقيق مكاسب بعيدة عن حقيقة الصراع الذي خسرنا فيه المزيد من الأرض و الأرواح.
و للتوضيح أكثر ، فإننا كشباب حداثي شعبي نقتبس الأجوبة من عبقرية الإعتدال في فكر الحسن الثاني – رحمه الله – ، لكي نُذَكِّرَ الجميع بأنَّنَا لاَ ندعو إلى حرب دينية ؛ لأننا نعرف خطورة هذه المعارك ، و نعلم أن الحروب السياسية تنقضي يوما ما حول منصة المفاوضات !. لكن الحروب العقائدية تبقى راسخة في الأذهان و عالقة بعشرات من الأجيال.. وبالتالي فالحكمة من السرد الآتي مُوَجَّهَةٌ إلى أولئك الذين يُريدون أن يَرجعوا بنا إلى القرون الوسطى ؟!
إن هذا القدس الشريف مَا ضَاعَ حقُّ المؤمنات و المؤمنين فيه إلاَّ لِعَدَمِ العمَلِ بِنَصيحة الملك الحسن الثاني – رحمة الله عليه – ، و الذي طالب الجميع بضرورة التمييز الرشيد بين مسار التفاوض حول القضية الفلسطينة كصراع عربي – إسرائيلي ، و بين ضرورة الحوار مع الجميع حول قضية القدس الشريف.
وَ بالتأسيس على ما سبق جرْدُه ، وجب التَّنبيهُ إلى أن مُسْتَجَدَّات التحولات التي تعرفها منطقة غرب آسيا ، و بالخصوص دول الخليج و الطوق العربي، تعلن عن دخول مرحلة تاريخية جديدة تتمظهر فيها إحتمالات تفتُّت حلم قيام دولة فلسطينية موَّحَدة و كاملة السيادة ، أما مدينة القدس الشريف فقد صارت بعد أزيد من سبعين سنة من الصراع “عاصمة” مُعترف بها لدولة إسرائيل -المُسْتَحْدَثَة- من طرف الولايات المتحدة الأميركية الدولة العظمى الراعية لمسلسل السلام !.
و قد انطلق مسلسل خسارة القضية التاريخي بوقائع مفصلية منذ سنة 1948 : عام إعلان الاعتراف الأممي بقيام دولة اسرائيل.ثم كان اندحار المشروع الناصري الذي جمع الأمة العربية من أجل وهم رمي إسرائيل في البحر الأحمر . لِتكون النكبة الصاعقة سنة 1967 مع إعلان ضياع الحدود العربية لأرض فلسطين ، و ذلك بعد أن تَوَغَّلت جيوش اسرائيل في عمق صحراء سيناء العربية. لذا أصبحت دولة مصر مُجبَرَة على الاعتراف بوجود دولة اسرائيل مُقابِل استعادة أراضيها الحدودية فقط !.
فَجاءَت معاهدة سلام كامب ديفيد شَارِحَةً للعربِ مضمونَ الخبرِ الصحيح عن نصر حرب أكتوبر سنة 1973 ، ذاك النصر الذي كان التهديد بوقف تصدير النفط سِلاَحَهُ الفَاصِل ، و هو – أيضا- الذي أوحى لصُنَّاعِ القرار داخل البيت الأبيض بضرورة تغيِير الرؤية الأمريكية لمستقبل منطقة الخليج ، حيث تحوّلت المنطقة إلى مرسى البوارج البحرية و مطار المُقَاتِلاَتِ الحربية و ميدان المعارك المدمرة.
و كان أن تحوَّلَت إيران الخميني نحو عقيدة الحاكمية لذاك ” الوَلِيِّ الفقيه المعصوم ” في انتظار ظهور “المهدي المُنْتَظَر “. غير أن الذي ظهرَ هو صدَّام العراق بالمفيد المختصر .و بعد أن خاضَ العراق البَعْثِيُّ حَرْبَيْن مُتناقِضَتين ، باتَ ثمن البقاء هو النفط مقابل الغذاء إلى أن قبض عليه جنود صاحب واقعة الضرب بالحذاء . وَ صَمتَتْ سوريا البَعْثِيَّة عن ذكر المطلب المُباح ، فَبَقِيَ الجولان مُحتلاًّ إلى أجلٍ غير معلوم. وَ هكذا أَتْقَنَ بعث سوريا ضمان استمرارية نظامِه عبر توافقات جيو- ستراتيجية كبرى على حساب استعادة الأراضي العربية المحتلة، و كأن لسان البعثِ السوري يُرَدِّد : تحرير الجولان قضاء و قدر ، و دون أن يهتف الأسد: الله أكبر .. وقع على معاهدة حماية مع بوتين القيصر؟! .
و لعلَّ المُعْطَى الذي يستفز الانتباه العقلاني عند مطالعة مراحل هذا الصراع المرير ، هو مسار دولة اسرائيل -المُسْتَحْدَثَة- التي لمْ تنقسم إلى شطرين متناحِرَين رغم وجود خلافات و اختلافات داخلية بين مُكوِّناتِها. وذلك لأن الهدف الذي يُوَحِّد “قادَتَها” هو إجماعهم على تحقيق مُعتقد ” الأرض الموعودة للشعب المختار” ، أو بلغة اللعبة الديمقراطية إجماعهم على المصلحة العليا لدولة اسرائيل -المُسْتَحْدَثَة- . و على النقيض منه فإن السلطة الفلسطينية – كطرف يمثل الإرادة الفلسطينية و يقرر عند المفاوضات- تَشَتَّتَ شَمْلُها و ظهر أمراء الطوائف الذين أضاعوا القضية بين أوهام فتح الضفة و حماس غزة.
ثم إستعمَلت إيران ذراعها حزب الله و بَسَطَت سيطرتها على جنوب لبنان و احْتَلَّ الحرس الثوري منخفضات ما خلف هضبة الجولان . و إنقسمت دول الخليج بين سلطة فتح و سلطة حماس ، و تاهت الجامعة العربية عن مبادرة السلام التي طرحها الملك عبد الله – رحمة الله عليه- . كما يبدو أن الخوف على عطش الأردن يَدْفَعُه إلى أولوية التفاوض حول المياه ، ثم بَقِيَ ما فوق طاقةِ مِصْرَ هو القيامُ بوساطة إنسانية لا تُلاَمُ عليها.
أيضاً ، فَواقعُ الضَّيَاع و التَضْيِّيع مَا كانَ لِيَتَحَقَّق إلاَّ عبر شروخِ الإنقسام الداخلي ، و الإقتتال الطائفي و المذهبي بين الفصائل الفلسطينية اللاهثة وراء سراب الهيمنة السياسوية ، بشكل لم تَعْتَمِد فيه مبدأ النأي بالقضية الفلسطينية عن مُخاتَلات الصراع العربي ، الإقليمي و الدولي ، و خلافات عقائد مذاهب الشعوب العربية و المسلمة.
و مِثْلَمَا فشل المشروع الناصري ، و البعثي و الخميني في تحرير الأقصى خلال القرن الماضي ، فإن صعود جماعات و أحزاب “الإسلام الإخواني” – فيما اصطلح عليه زورا و بهتانا بالربيع العربي الديمقراطي – كان مقدمة تمهيدية لِحُلول زمنِ الصفقة الجديدة . هذا الصعود الإخواني غير العقلاني أعلن سقوط دوغمائية مسيرات ” الصحوة الإسلامية الموعودة ” التي لم تَدْخُل بيْت المَقدِس كما دَخَلَهُ المُسلمون أولَّ مرَّة.
لقد شاءت ” إرادة ” الرئيس الأميركي ترامب أن تتَحَلَّى بالجرأة السياسية لِتَمْنَحَ مكسباً ثميناً لدولة إسرائيل -المُسْتَحْدَثَة- ، عبر التوقيع على قرار نقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس الشريف. فالرئيس دونالد ترامب لم يُؤَشِّر على قرار جديد ، إنما هو قرار قديم حانَ زمنُ تنفيذِه ، بعد ظهور إرهاصات التحولات الجديدة في مواقف دول الخليج و الطوق العربي المحيطة بإسرائيل -المُسْتَحْدَثَة- ، و كذلك بعد احتلال إيران لكل من جنوب دولة لبنان العربية و تمركزها بمواقع استراتيجية داخل الأراضي العراقية و السورية العربية ، مِمَّا ساعد إسرائيل على تبرير توسُّعاتها الإستيطانية بالإستمرار في إحتلال الأراضي الفلسطينية !.
و بالتالي ، يُفيدنا اعتماد الواقعية السياسية الجديدة في القول أن الولايات المتحدة الأميركية – باعتبارها دولة عظمى حاميَّة لإسرائيل -المُسْتَحْدَثَة – قد وضعت القدس الشريف و كل الموروث الديني لرسالات السلام تحت تصرف حكومة تل أبيب بشكل صادِم و مفزِع ، كخطوة ضاغِطة حاسِمة سبقت الإعلان عن التسوية الجديدة ” صفقة القرن ” و التي تشترط فيها قيام دولة فلسطينية “محدودة” دون امتداد استراتيجي ديني. حيث أنها ستكون دولة فاقدة لحق الوصاية و الإشراف على مُقدسات أمة محمد و أمة عيسى -عليهما أفضل الصلاة وأتم السلام- بمدينة القدس الشريف.
و إذا كانت تحولات دول الخليج و الطوق العربي قد تجاوزت زمن الحسم و اقتربت من ساعة الكشف المبين عن مواقفها الجديدة ، فإنَّ الأسْئِلَة المُحَيِّرَة نَطرَحُها وِفق الترتيب التالي :
1- ماذا تفعل ميليشيا فيلق القدس التابعة لقوات النظام الإيراني التي تحتل مواقع استراتيجية في سورية العربية المُتاخمة لحدود دولة إسرائيل التي تهتف الشعارات في طهران بِمَوتِها؟!.
2- لماذا أرسل أردوغان جيوشه الإرهابية و احتل ليبيا المغاربية ، و لم يتجرأ على تمزيق معاهدة السلام التي تربط تركيا بدولة إسرائيل؟!
2- لماذا لم تتحرك جمهورية إيران الخمينية و تركيا العثمانية دفاعًا عن حرمات القدس الشريف كما كانت تتبجَّح بِه في خطاباتِها الحوزيَّة و الإخوانية، رغم أن منصات صواريخهما لا تبعد إلاَّ بضع أميال على خطوط التَّماس مع دولة اسرائيل ؟!
هكذا – إذن – يجب أن تتذكر الأجيال الصاعدة أنَّ الكيانات” الإسلاموية” الشعبوية بغرب آسيا رفضت كل الحلول السلمية الحكيمة و الرصينة التي طرحتها المملكة المغربية قصد تثْبيت حق جميع المؤمنات و المؤمنين في أرض القدس الشريف.
و لم بستطع سفهاء بروتوكولات الكيانات اللاعبَة بالمشترك الديني الإسلامي ، أن يشاهدوا- و لو بشق تمرة- في الحفاظ على مقدسات أرض إسراء النبي محمد السراج المنير .و ذلك ليس لقِلَّةِ عددهم أو عتادهم، بل لأن الذكاء الإصطناعي السياسي يؤكد أن عقل المليار قد يعادل مجموعة فارغة ، إذا كانت الأصْفَارُ المُشَكِّلَة لهُ بعيدة كل البعد عن إستيعاب مَوْقِفٍ واحدٍ لِرَجُل حكيم.
ملحوظة هامة : لستُ من هواة نظرية المؤامرة .. بل أودُّ التنبيه إلى أن سبب الهزيمة السياسية ليس قوة دولة إسرائيل !.
*شاعر و كاتب مغربي