الصحافة _ الرباط
أكبر من محل لاعداد وتقديم مشروب، المقهى فضاء اجتماعي مركزي لانكشاف الذات على العالم، وممارسة حياة بصيغة الجمع، والتمتع بالانتماء الى شلة من الأقران. هي واجهة لرصد التحولات التي تطرأ على الناس والعلاقات والأمكنة. هي الدال على المكان، اسم آخر للمدينة وشاهد على صيرورتها وحاضن للذاكرة المتجذرة فيها.
المقهى هوية يصنعها تفاعل غير معلن بين صاحبها وشريحة غالبة من الزبناء. بتسعيرتها، بشكل تصفيفها وتأثيثها، بجودة منتجاتها، وببروفايل نادليها، ينتخب المكان رواده ويرسي قاعدة وفاء تضيق أو تتسع، نحو إغلاق مبرمج أو حياة مديدة عابرة للأجيال. طلبة يواظبون على التحصيل تحضيرا للامتحان، مهنيون توسموا في ركن موعدا يوميا لتدبر الأحوال والقيام بشؤون البيزنيس والوساطة، موظفون يكسرون روتين التشابه، عشاق يتوخون مكانا هادئا آمنا على ايقاع الموسيقى، عاطلون يبددون الزمن ويبددهم في يوميات انتظار تشبه روتين العمل لكن بمرارة العجز والتيه واللاجدوى، وعابرون لا يتجددون…
لفنجان القهوة في “زنزبار” نكهة خاصة تطربها الصباحات الطافحة بالنشاط على رصيف العصب الحيوي الذي يشق مدينة فاس مستضيفا خطى مسرعة للموظفين والمرتفقين ومتعهدي الخدمات والمتسوقين. ينتصب المقهى على واجهتين تشكلان زاوية قائمة، تشرف احداهما على شارع محمد الخامس والأخرى على ممر مرصف يخلو للمشاة.
المكان مناسب للمواعيد السريعة وجلسات الدردشة المنطلقة على السواء. تنفرد المقهى بطقوس الارتشاف السريع للفنجان وقوفا على “الكونطوار” وخيوط الدخان تعتم الأفق، بينما يحتدم الحديث في الطاولات المنزوية بين شلة من أنصار المغرب الفاسي، يتكهنون بالمستقبل الغامض، يتبادلون الولع ويتسقطون أخبار النادي، أو بين ثلة من أدباء المدينة، يدمنون اختلاف الرأي حول النصوص والظواهر وتحولات الفكر والمجتمع والسياسة.
“زنزبار”.. اسم سهل التردد للعائد من أجل تقليب صفحات شباب غابر في المدينة. تناسلت كالفطر مقاهي المدينة الجديدة وتنافست في هندسة الفضاء لكن الخلصاء يعرفون أن بقاء الاسم والمسمى ليس معلقا على استثمارات سطحية لتغيير الطاولات والكراسي، أو طلاء الواجهات. المهمة التاريخية هي الحفاظ على تلك الرائحة التي تدغدغ الأنف، وتثمين روح وفادة حميمة والوفاء لروح صور الأبيض والأسود التي تلخص سيرة المقهى وقصة المدينة عبر قرن وأكثر.
خلف كل الأسماء قصص ومصادفات تتعانق فيها حكمة التصاريف الإلهية مع قوة الإرادة الانسانية. في أربعينيات القرن، جاء من بادية سوس وهو في الثالثة عشر من عمره، لا يعرف عربية ولا فرنسية. هام على وجهه شريدا جائعا قبل أن يهتدي الى العمل نادلا في مقهى “كريستال” التي يرجح أنها الأولى من نوعها في “المدينة الجديدة” التي اصطفت على النمط الكولونيالي الحديث حيث يمتد شارع محمد الخامس. منها سيلتحق بمقهى “زنزبار” الجديدة آنذاك، التي فتحها ألبير، اليهودي الديانة، عام 1928 كما توثق اللوحة البارزة خلف ماكينة طحن البن.
كانت حانة ومطعما يستقبل أساسا المعمرين وموظفي الإدارة الفرنسية، أما القهوة فخدمة طارئة، سيكون ابراهيم سببا في دخولها لتصبح امتيازا سبقت إليه زنزبار وتميزت به عن نظيراتها في تقاليد الزمن الفرنسي.
بدأت بدردشة عابرة للنادل الشاب مع زبون مهموم جازف للتو باستيراد كميات من البن من البرازيل، ويبحث عن سوق للترويج. “لنجرب الأمر”، قالها ابا براهيم الذي كان قد حظي بثقة المعلم وحاز حرية التصرف في شؤون المحل. أيام أولى شهدت إقبالا ملحوظا واستحسانا للرواد رفعت أسهم “زنزبار” وكرستها عاصمة للنكهة السوداء تخفي سر صفقة رابحة خارج المنافسة.
ها هو قرار الرحيل عن المغرب يبدو وشيكا بالنسبة لألبير الذي اقترح على نادله المحبب أن يصبح شريكه. يستعظم ابراهيم الأمر، ويراه مستحيلا لا قبل له ولمدخراته القليلة به، لكنه يسقط ضحية “مؤامرة” خيرة وكريمة دبرها المعلم مع صديقه الموثق. سيوقع الرجل الأمي على أوراق لا يفقه سطورها فيصبح آخر من يعلم أنه مالك لنصف المقهى. يكتشف بعد حين ما أصبح أمرا واقعا، لأن الأرزاق تأتي من وراء حجاب.
بعد رحيل ألبير، وبحنكة فطرية، سعى ابراهيم الى ضم شريك يكون لاسمه ووضعه الاعتباري وقع جاذب في فاس الجديدة التي ازدهرت فيها أعمال العائلات الفاسية العريقة وانبثقت طبقة جديدة من التجار والموظفين والمستثمرين على أنقاض المعمرين المغادرين. يحل أحدهم شريكا سيغري، بنسبه العريق، أكابر المدينة وأعيانها باختيار “زنزبار” مكان النشاط الاجتماعي وتزجية الوقت المتملص من يوميات السعي. منهم مسيرو نادي المغرب الفاسي بنخبه النافذة والميسورة. ففي هذه الزاوية التي أصبحت فضاء ممتدا للفريق، كان يجتمع أنصار وأصدقاء حول طاولة الرئيس التاريخي بن زاكور، وخلفه بلخياط وغيرهما، وتحتدم النقاشات حول المباريات والجموع العامة وانتدابات المدربين واللاعبين. با ابراهيم ابتلي بعدوى حب الماص وأصبح داعما له.
مثقفو المدينة أيضا انتخبوها ركنا للقاء وتأمل إيقاع الحياة والتفرس في وجه مدينة تتحول بعسر وألم. كان الأديب المهدي حاضي حمياني يرتادها في جل المساءات، حتى أن الشاعر محمد بنطلحة والكاتب محمد الشركي، وهما يدونان رثاءهما للراحل، ذكراه بموعد محقه القدر كان مبرمجا في “زنزبار”.
تتحقق المنعطفات أحيانا بلا مقدمات. في يوم معلوم، غداة رؤيا حملته الى قلب الحرم المكي، سيعتزم ابا ابراهيم حج البيت، لكن، قبل الصعود الى الطائرة، سيطلب التخلص من مخزون المشروبات الروحية، ويخلو وجه المقهى لشرب “حلال”. لا غريم للقهوة بعد الآن.
محمد الناجي، البكر الذي يواصل رعاية إرث با ابراهيم المادي والرمزي، بعد أن كان ينوي الرحيل الى كندا إثر حصوله على الباكالوريا، يذكر باستمرار ذلك اليوم الذي أخذه فيه والده إلى ضاحية المدينة، عند سفح البرج الشمالي، حيث تتخلل المرتفع سلسلة من الكهوف الصغيرة. عند مدخل أحدها، خاطب الرجل ابنه في ما يشبه وصية غير معلنة، أو درس حياة جديرا بالتوارث: “هنا، كنت آوي ليلا طيلة ستة أشهر، بردانا وجائعا”. على المرء أن يلتفت بين حين وآخر الى الوراء كي لا ينسى بداية الطريق.
هي قصة نجاح خارج أسوار المدارس والجامعات وقواعد البيزنس الحديث. تمر الفرص مجنحة تجس استعدادات الناس وقواهم وطموحهم ومن كان جهاز استقباله متيقظا يظفر بشيء يسميه البعض حظا.
مع ذلك لا ينجلي سر “زنزبار”، في صمودها أمام الهزات وانبعاثها من النكسات المادية التي كادت تبيدها، دون الانصات الى همسها الانساني الذي يدب في الخطوات الهادئة للعم أحمد عتيق، الشيخ الذي تقوس ظهره وتضاءل بصره المتوسل بنظارات سميكة، لكنه يواصل العمل بهمة ورضا، منذ 35 سنة.
بلغته البسيطة يتحدث عن فن علاقات عامة وقواعد معاملة وخطاب خاصة تحفز الزبون على الارتباط بالمقهى ونسج وصال من الألفة العائلية مع المكان وأهله. “هي قيم زرعها الراحل ابا ابراهيم الذي كان يتصرف كزميل لنا لا كرب عمل”. أما قدامى رواد “زنزبار” فيستحضرون حمان، الذي يضمر جانبا آخر من القصة ودروسها. حمان كان يعطف على ابا ابراهيم ويحسن إليه أيام التشرد والجوع لينتهي نادلا عنده، محفوظ الكرامة، إلى أن تقاعد.. ومات.
“زنزبار” أكثر من مقهى.. اسم مكان يتغذى على الأرواح النبيلة التي عبرته، ويجمع شتات ذاكرة ومدينة وجيل.