بقلم: محمد بوبكري
يجمع المتتبعون للشأن الجزائري على أن الحراك الشعبي قد أصبح أكثر قوة وانتشارا من ذي قبل. وإذا كان الجنرالات قد اعتقدوا أن الحراك قد انتهى مع “الجنرال القايد صالح”، فإنه على العكس من ذلك لا يزال مستمرا، حيث يعلن الشارع الجزائري عن تمسكه بمطلب “دولة مدنية، ماشي عسكرية” الذي يقتضي رحيل نظام العسكر.
وعوض أن يعترف الجنرالات بمطالب الشارع الجزائري ويراجعوا ذواتهم، فإنهم ما يزالون مصرين على استمرار نظامهم العسكري المستبد، حيث يروجون يائسين في وسائل الإعلام التابعة لهم أن الحراك مؤامرة من تدبير جهات خارجية. ولدعم هذا الافتراء، لجأوا إلى تقديم مشروع قانون يجرد الجزائريين المعارضين المقيمين في المهجر من جنسيتهم الجزائرية الأصلية، ما يكشف غباوة هؤلاء الجنرالات، لأنهم مهدوا بذلك لحل البرلمان الجزائري حتى يتمكنوا من تمرير قراراتهم العنيفة بمراسيم رئاسية فقط.
وما لا يدركه الجنرالات هو أن الجنسية ليست قرارا إداريا، أو هبة من “سعيد شنقريحة”، لأنني تتبعت خطابات المعارضين الجزائريين في المهجر، وتأكدت أنهم يحبون الوطن ويحملونه في فكرهم ووجدانهم وفي كل كريات دمائهم، ما يفند تخوينهم من قبل نظام العسكر الذي يوجهون نقدا لاذعا إليه، بدافع من غيرتهم الوطنية، ولأنهم مقتنعون بأن سياسة العسكر تهدد الوطن في كيانه. وليس مستبعدا غدا أن يلجأ العسكر إلى سن قانون يجرد المهاجرين المعارضين من أملاكهم. لذلك، يرى خبراء وسياسيون جزائريون أن الهوة تزداد اتساعا بين السلطة والشعب؛ فالمشكل، في نظر هؤلاء، راجع إلى انحراف السلطة وعنفها، لأنها التفت على مطالب الحراك الشعبي السلمي، وتنكرت للوعود التي قدمها “القايد صالح” للشارع الجزائري، حيث رفضت الشروع في توفير الشروط التي تمكن الجزائر من الدخول في مرحلة انتقالية…
وبعد تأملي في مجريات الأحداث في الجزائر، تأكد لي صحة الفرضية القائلة: إن نظام العسكر هو المسؤول وحده عن هذه الوضعية التي تعيشها الجزائر؛ فعندما يخرج الشعب للشارع رافعا شعار “المخابرات الجزائرية إرهابية”، فهذا يعني أن هذه المخابرات لا تخدم الوطن، ولا المواطنين، بل إنها تمارس عليهم أبشع أساليب العنف، حيث تحتجز الناس لمدة عامين، وبعد ذلك تفبرك لهم محاضر وتقدمهم إلى المحاكمة لتتم إدانتهم رغم أنهم لم يرتكبوا أي جرم سوى أن أجهزة الأمن قد صادفتهم في الطريق، فاحتجزتهم في أقبيتها. كما أنها مارست الاختطافات والتعذيب والقتل الفردي والجماعي في حق الجزائريين… أضف إلى ذلك أن هناك مفقودين مدنيين وعسكريين ما يزالون في حالة اختطاف، وما تزال أمهاتهم تبكين عليهم. بالتالي، فجهاز المخابرات لا يعمل لصالح الشعب والوطن، وإنما لصالح الحاكمين، حيث يلبي رغباتهم، ويستجيب لشهواتهم. كما أنه يغطي على الفساد ويحميه، إذ يحمي بارونات الفساد والتهريب والمخدرات، ولا يحمي المال العام، ما يؤكد أنه لا يحمي الدولة. وللتدليل على عنف أجهزة الاستخبارات الجزائرية، يكفي أن نطلع على تصريحات المعتقلين في قاعات المحاكمات، حيث صرحوا علنا بأنهم تعرضوا لأبشع أنواع العنف في مخافر الشرطة، وفي السجون والمستشفيات، وكذا في المحاكم ذاتها، بل منهم من صرح بأنه تبولوا عليه، وعرضوه للتعذيب والاغتصاب الجنسي، كما صرح به الطالب المناضل “وليد نقيش” الذي تم إطلاق سراحه خوفا من ردود فعل الأمم المتحدة والرأي العام الدولي….
هكذا، فبتوظيف الجنرالات لأجهزة الأمن لتحقيق أهدافهم الوسخة، يكونون مسؤولين عن وصف الشارع الجزائري للمخابرات بكونها “إرهابية”. ولذلك رفع الحراك شعار “الجنرالات إلى المزبلة”؛ فالشارع يعي أن الجنرالات قد مارسوا الفساد وما يزالون يمارسونه؛ فهم وراء الفساد بشتى أنواعه، وتهريب المال والمخدرات. أضف إلى ذلك أن الشعب الجزائري يدرك أن الجنرالات يكونون دوما وراء العمليات الإرهابية، لأنهم يعتقدون بجدوى وجودهم وضرورتها، ما يشكل عقيدة كل من الجنرال خالد نزار والجنرال توفيق محمد مدين، لأن لهم سوابق في ذلك.
هكذا يرى المعارضون الجزائريون أن الجزائر قد خرجت من دولة الفساد إلى دولة الاستبداد، لأنها صارت دولة “أمنية” بامتياز وليست دولة قانون. وإذا عجزت الأجهزة الأمنية الجزائرية عن محاصرة الحراك الشعبي في يوم الجمعة الأخير، فإن ذلك راجع لضغط المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة التي نددت بالعنف الذي يمارسه العسكر على الحراك الشعب السلمي الجزائري، كما أنها حذرتهم من مغبة الاستمرار في ذلك. فأفراد الشعب لا يساوون ذبابة، كما سبق للجنرال نزار أن تفوه بذلك في بداية تسعينيات القرن الماضي.
فضلا عن ذلك، فالعسكر لم يجروا لحد الآن أي تغيير، بل تراجعوا عن الوعود التي سبق أن تقدم بها “القايد صالح”؛ فالدستور عبارة عن مسخرة لا علاقة بأغلبية الشعب. وهناك ولايات ومناطق جزائرية لا علاقة لها أصلا بالسلطة التي أقصتها وهمشتها ومارست شتى أنواع العنف والتعذيب البشعة على أبنائها، ما يؤكد أن الجنرالات هم وحدهم الذين خلقوا الانفصال. كما أنهم حرموا البلاد من التوفر على دستور فعلي ومؤسسات وأحزاب وتنظيمات مجتمعية ديمقراطية…
ثم إن السلطة الجزائرية لا تكف عن ممارسة العنف بشتى أنواعه، وتعيث فسادا في البلاد كلها وفي كل القطاعات، بالتالي ليس مستبعدا أن يرفع الشارع الجزائري غدا شعار “الجيش إرهابي”، لأن العسكر لم يقوموا بأي تغيير، بل إنهم أخذوا سلبيات نظام “بوتفليقة واعتبروها إنجازات لهم، و”الدستور والرئيس” مرفوضان، والشعب يعتبر حل المجلس الوطني الشعبي (البرلمان) مؤامرة لتسويغ القرارات الجائرة التي يعتزم العسكر اتخاذها ضد معارضيهم… هكذا، فإن السلطة الجزائرية تعمل على نهج العصابات، ولا تستند إلى الدولة التي لها منطقها، وهو يسير على هذا النهج.
وإذا كان تبون يقول: “إن كل مطالب الشعب قد تحققت”، فماذا تحقق؟ هل تحقق التغيير؟ هل أقامت الجزائر مؤسسات ديمقراطية؟ هل تتوفر على دستور ديمقراطي؟ هل تمت محاسبة العصابة وكل المسؤولين الفاسدين؟ يؤكد الحراك ألا شيء تحقق، إذ كل ما تحقق هو تعويض “بوتفليقة” بـ”تبون”. فالمواد الغذائية مرتفعة الأسعار، إن لم تكن منعدمة، والماء نادر جدا، والمواصلات كارثية… لذلك، يرى المعارضون أن الجنرالات لا يستحقون أن يكونوا على رأس السلطة في الجزائر، لأنهم أغبياء؛ فهم لا يسعون إلى الخروج بالجزائر من الأزمة الحالية، لأنهم ليسوا أذكياء.
بناء على ما سبق، لا وجد أمام العسكر اليوم سوى اختيارين: العنف الذي لن يجدي نفعا، أو الاستجابة لمطالب الحراك السلمي، رغم أن خالد نزار وتوفيق مدين يميلان دوما إلى الحلول الدموية. واللجوء إلى العنف يتعارض مع منطق المنظومة الدولية، وقد يؤدي إلى تدخل الأمم المتحدة لحماية التظاهر السلمي للشعب الجزائري، ما يمكن أن يلحق أضرار بالكيان الجزائري…
وإذا كان الجنرالات يعتقدون أن استقبال “تبون” لراقصات الأحزاب الكارتونية التابعة للعسكر، قد يخفف من جذوة الحراك، فإن الحراك مستمر. ويدل احتجاج ملايين الجزائريين في الشارع ضد نظام العسكر على امتلاك الشعب الجزائري إرادة قوية لتحقيق مطالبه، ما يؤكد فشل إعلام السلطة في التأثير عليه، لأنه لا يثق فيه، ويرفض مشاهدته، أو الاستماع إليه. وهذا ما يفسر لجوء الشعب الجزائري إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي يمتلكها الجزائريون المعارضون لنظام العسكر، لأنه يعتبرها ذات مصداقية، وينظر إلى إعلام السلطة على أنه فاقد لأية مصداقية…