الصحافة _ وكالات
منذ ما يُقارب الأسبوعين أو أقل، بدأت قطاعات واسعة من المصريين في التحدث بشكل علني بصوت منخفض أخذ يرتفع مع الوقت في السياسة والتعبير عن موقفهم أو رؤيتهم لطبيعة النظام الحاكم في مصر الآن، كانت الصخرة التي أُلقيت في الماء الراكد بالطبع هي المقاطع المرئية التي سجّلها المقاول والممثل محمد علي يحكي فيها مظلمته الشخصية مع الجيش المصري والهيئة الهندسية التابعة للجيش المصري.
سرعان ما انتشرت تلك المقاطع على منصات التواصل الاجتماعي كافة، وأصبح يتابعها يوميا ملايين المصريين، ثم انتقلت إلى أن باتت حديث الساعة في مصر في غالبية أماكن تجمعات المصريين على المقاهي وفي أروقة العمل(1)، وبات محمد علي نفسه الذي خرج من مظلمته الشخصية إلى المظلومية العامة التي يحياها المصريون أشهر شخصية في مصر الآن، حتى دعا في نهاية الأمر إلى نزول المتظاهرين ضد السيسي في الشوارع، وهي الدعوة التي لاقت نجاحا لم يكن يتوقعه أشد المتابعين تفاؤلا. السؤال هنا؛ كيف يمكن لرجل عادي غير مسيس بأي معنى أن يفتح بنفسه المجال السياسي ليقتحمه عشرات الآلاف من المصريين في وقت تم تفكيك كل التنظيمات السياسية وأشكال الاحتجاج والتعبير السياسي في مصر؟!
يقودنا هذا السؤال إلى طبيعة النظام السياسي الحاكم الذي خاطبه محمد علي بالأساس، فمنذ بداية حكمه عمل السيسي على محو أي فجوة بين نظامه السياسي وبين أجهزة ومؤسسات الدولة في مصر، مستندا إلى شرعية التفويض الذي حازه حين كان وزيرا للدفاع، ليُعلن أن حكمه ليس حكم نظام سياسي ولكنه حكم الدولة نفسها، حرصا منه على غلق أي مجال يمكن أن يلتقي ويتناقش فيه الجمهور في السياسة، وحتى قبل أن يصبح رئيسا سُئل السيسي عن برنامجه الانتخابي، فأجاب ساخرا من أن تطرأ الفكرة على سائله قائلا: “إن البرنامج الانتخابي هو مجرد كلام، والآن لا وقت للكلام”، ويرجع ذلك، بحسب العديد من المعلقين، إلى أن النظام نفسه لا يملك أي أجندة سياسية حقيقية يمكن تسويقها لعموم الناس في مصر.
للسيسي أجندة سياسية قطعا، غير أن الناس ليسوا المعنيين بها، فالسيسي لا يظن أن الشعب المصري هو من أتى به إلى سُدّة الحكم، وتتلخص تلك الأجندة السياسية في الحفاظ على تماسك المؤسسة العسكرية والتفافها حول شخصه، ضمانا للحيلولة دون وقوع انقلاب عسكري آخر، وتطبيق برامج وسياسات صندوق النقد الدولي لضمان استمرارية تدفق المعونات والقروض من الخارج، التي تضمن استمرار نظامه على أنقاض المجتمع والدولة. من تحت تلك الأنقاض تحديدا خرج محمد علي بتسجيلاته بوصفه رجلا متحررا أصلا من الحاجة إلى تقديم خطاب سياسي يعتمد على حجج وبراهين، ليُقدِّم خطابا شعبويا بسيطا أكثر أصالة يفضح شعبوية النظام الحاكم الزائفة. غير أنه -أي محمد علي- متحرر من القيود الرسمية، على عكس السيسي ونظامه المُطالَب أمام شعبوية محمد علي وانتشاره بتقديم خطاب سياسي مقنع للناس لأول مرة، وهو ما يبدو أن النظام عاجز عن تقديمه. من هنا تحديدا نجحت دعوة محمد علي للتظاهر وخرج الناس إلى الشوارع مرة أخرى لأول مرة منذ أعوام، معلنين -ولو جزئيا- نهاية التفويض وعودة السياسة.
ثمن التفويض ودولة الطوارئ
أفضل وسيلة لفهم تأثير تظاهرات يوم العشرين من سبتمبر/أيلول ودلالاتها السياسية هي فهم طبيعة النظام الذي خرجت تلك التظاهرات تنادي بإسقاطه، النظام الذي بدأ في التشكّل لحظة الانقلاب العسكري في العام 2013، مستندا بشكل كليّ إلى شرعية مستجدة يمكن أن نطلق عليها “شرعية التفويض”، إشارة إلى الحدث الذي أسّسها، وهو تفويض “السيسي” حين كان وزيرا للدفاع، جوهر عملية التفويض كانت لغرض أساسي هو تأسيس حالة استثناء وحصار لكل قوى ثورة يناير وبشكل أساسي تصفية جماعة الإخوان المسلمين إلى حد الاستئصال والإنهاء التام، وبالاستفتاء على الدستور في العام التالي وانتخاب السيسي رئيسا لمصر، أُسِّس هذا التفويض باعتباره الركيزة الأساسية لشرعية النظام الحاكم، وتم تأسيس النظام كحالة حربية عسكرية تحتشد فيها أجهزة الدولة وفي المجتمع تحت زعامة السيسي ضد من تم تعريفهم كأعداء للدولة والوطنية المصرية(2).
يُفصّل الأكاديمي وأحد المُنظّرين للنظام الحالي الدكتور شريف يونس(3) في طبيعة التفويض الذي حازه السيسي، معلقا أنه بمجرد حصوله عليه يعلو السيسي كزعيم ورمز على جهاز الدولة ككل، فقد رفعه الشارع بالتفويض فوق كل القوى والمؤسسات. وعمليا، ارتضت الجماهير التخلي عن المشاركة في السياسة، وعن عبء تنظيم نفسها في أحزاب وحركات مدنية وجماعات ضغط ومصالح، بتسليم القيادة لفرد واحد، يصبح هذا الفرد تجسيدا للدولة المصرية، وتجسيدا لهذه القوى التي تريد إعادة بناء الدولة وتحارب أعداءها المفترضين، “أصبح السيسي إذن تجسيدا للدولة -لا النظام فحسب- وحاملا للشرعية السياسية، والمسؤول السياسي الأوحد أمام الجماهير في شأن كيفية أداء الدولة وقيامها بمهماتها المختلفة. لقد أصبح السيسي حامل الشرعية ومرتكزها الرئيسي، ومصدر شرعية كل المؤسسات الأخرى”(4).
من زاوية أخرى، يُعلّق الباحث محمد نعيم(5) أن الثمن الذي يُدفع لقاء تفويض 26 يوليو/تموز 2013 كان فوق مستوى الاستيعاب، والخسائر والعطب والإهدار والعبث والانتهاك الذي ينهل من البلد لا مثيل له في أي زمن مضى، سواء كان ماديا أو رمزيا، والإشكال هنا هو أن التفويض لم يتوقف عند حدوده الأولى التي كانت قاسية وعنيفة بالفعل، بل تمادى لمستويات عالية لم يتخيلها المؤيدون للتفويض أنفسهم في استباحة الاجتماع المدني في مصر حتى في أشد أشكاله بساطة.
ويُضيف نعيم في موضع آخر(6) أن النظام نجح بالفعل في هزيمة خصمه الأول مُمثّلا في التنظيم الضخم للإخوان المسلمين الذي يتجاوز عدد أعضائه مئات الآلاف غالبيتهم من الطبقة الوسطى، ويصل عدد أنصاره والمنخرطين في شبكات التنظيم الاجتماعية والخدمية إلى ملايين غالبيتهم من شرائح متنوعة طبقيا ومناطقيا، تلك المواجهة الدامية لم تكن حصارا للثورة وقواها وجماعة الإخوان فحسب، بل كانت حصارا للمجتمع ككل، وكلّفت مصر كل عناصر حياتها المدنية وكل تراثها الرمزي شبه القانوني وشبه المؤسسي الذي راكمته منذ الاستقلال تقريبا، انتهى الإخوان وانتهى معهم الإعلام والصحافة والعمل الطلابي والرأي الآخر والسينما والدراما التلفزيونية الجذابة والمسرح وهامش الحرية والحيثية الأكاديمية، وكذلك النشاط الأهلي ذو هامش الحرية المحدود وشرعية النخب السياسية المدنية ولياقتها واحترامها، وكذلك مثقفوها وأهليّتهم ولغتهم وجدالاتهم وصراعاتهم، كان ثمن التفويض وحالة الاستثناء والطوارئ وتصفية الإخوان -أي مكونات نظام السيسي الأساسية- هو تجميد أي مستوى رمزي لكل أشكال الحياة العامة في مصر.
تفكك حالة الاستثناء والحصار من داخلها
صاحب انتشار مقاطع محمد علي جدل حول طبيعة ظهوره، هل هي عفوية أم مُرتّبة، الجدل الذي استمر حتى حديثه عن علاقة السيسي بإحدى قياداته الفريق كامل الوزير ونفور ضباط الجيش وبعض الأجهزة وحتى القيادات من طريقة حكمه، صاحب ذلك ظهور مقاطع مرئية لعدد من النشطاء والضباط السابقين بالجيش والأمن الوطني يتحدثون عن أسرار في منتهى الخطورة تخص السيسي وعائلته، حدث هذا بُعيد موت الرئيس الأسبق محمد مرسي وكأنه إعلان ضمني بانتهاء حقبة سياسية، والحاجة إلى بدء مرحلة جديدة في مصر. أوحى هذا التزامن بأن هذه الأحداث ليست محض مصادفة، وأن هناك مَن يعمل بشكل منظم للضغط على السيسي.
في السياق ذاته أفاد بعض الإعلاميين(7) بورود تقرير صدر من أحد الأجهزة الاستخباراتية في مصر مفاده “أن الخطر من الإخوان المسلمين تضاءل جدا، خاصة مع موت محمد مرسي وتفكك الجسم الأساسي لتنظيم الإخوان في مصر، أصبح الإخوان جراء ذلك عاجزين عن أي فعل سياسي ولو محدود، باتوا خارج اللعبة السياسية تماما”. في هذه الأجواء خرج محمد علي والناشط السيناوي مسعد أبو الفجر وعدد من النشطاء والضباط، أيًّا كانت ملابسات ظهورهم عفوية أم مُرتّبة، ليُعلنوا أنه حان الوقت للاشتباك مع حالة الاستثناء والتفويض من جديد، وأن نظام السيسي وشرعية التفويض المفتوح لا يمكن أن تستمر، كانت تلك السلسلة من الأحداث تعبيرا واضحا عن حالة من الضجر لدى الأجهزة والقوى داخل النظام بشأن ترتيبات وعلاقات السلطة داخل النظام والسلطات الاستثنائية الممنوحة للسيسي، ضجر مُعلن صريح التقطه الشارع المصري سريعا.
في هذه اللحظة بدا للجميع أن النظام في حالة من الهشاشة والضعف المفاجئ عكس كل الصورة التي حاول ترسيخها في الأذهان طوال أعوام حكمه التعيسة الخانقة، حيث يبدو أن المعادلة التي حاول السيسي فرضها بحكمه وحيدا فوق المؤسسات والقوى كافة بدأت في الانقلاب عليه، يُقرّبنا الباحث يزيد صايغ(8) من الصورة أكثر معلقا أن السيسي وعُصبته الصغيرة الحاكمة لم تحاول إنشاء أي تحالفات سياسية واسعة من أي نوع للارتكاز السياسي عليها أثناء الحكم، بل تم تبني إستراتيجية في غاية الغرابة وعدم المعقولية، وهي محاولة تطبيع حالة الاستثناء وخلق حالة دائمة من الحشد والتفويض ضد السياسة بكل أشكالها، مما يجعل السيسي باستمرار الوقت يزداد عزلة، ليس عن الناس فحسب، بل عن الأجهزة الدولتية والسيادية المختلفة فضلا عن أصدقاء النظام من رجال الأعمال التي باتت مصالحهم مهددة بسبب غياب أي قدرة لدى السيسي على إنشاء تحالفات سياسية حقيقية مبنية على تبادل مصالح وصلاحيات وتقديم تنازلات من أي نوع.
بهذا المعنى تكون المظاهرات التي خرجت منذ يوم الجمعة العشرين من سبتمبر/أيلول، والتعامل الأمني الذي بدا لأول مرة مرتخيا وضعيفا نوعا ما، إنهاء لحالة التفويض المفتوح للسيسي وتفكيكا لحالة الطوارئ المفروضة على مصر منذ قدومه، تفكيكا ساهمت فيه بعض الأجهزة النافذة في الدولة فضلا عن مجموعات المتظاهرين التي خرجت للشوارع، لتصل رسالة واضحة للسيسي نفسه أن نظام حكمه بالشكل الحالي لن يدوم طويلا، وأن الإصرار على حكم دولة بحجم مصر بهذه الطريقة قد يقود البلاد إلى كارثة حقيقية، والحل الوحيد هو إنهاء حالة التفويض والطوارئ والعودة للسياسة حتى لو على حساب وجود السيسي نفسه على رأس السلطة.