الصحافة _ بقلم: ميمونة الحاد داهي
من الظواهر المثيرة للانتباه في المشهد السياسي المغربي في الآونة الأخيرة، ظهور حملة هجومية مركبة تستهدف حزب العدالة والتنمية. هذه الحملة، التي قد تبدو أحيانًا بنكهة “النقد الذاتي” أو تتنكر في ثوب “الموضوعية التحليلية”، إلا أن جوهرها لا يخفى على ذي بصيرة: إنها ليست مجرد محاولة لتقييم ممارسات الحزب أو مساءلة اختياراته السياسية، بل هي حملة تهدف إلى خلق صورة مشوهة عنه في وعي الرأي العام، بل وشيطنته، ليُصور وكأنه مصدر كل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المغرب.
قد يبدو الأمر في ظاهره مجرد تعددية في الرأي واختلافًا مشروعًا، لكن عند التمحيص الدقيق وقراءة السياق السياسي العام، يتضح أن المنطق الكامن وراء هذه الحملة أكثر دقة ودهاءً. إنها ليست مجرد معركة من أجل الإقناع السياسي أو تقديم بدائل واقعية، بل هي استراتيجية تهدف إلى إضعاف صورة الحزب في وعي الجماهير، استعدادًا لإعادة تشكيل خريطة الثقة السياسية في البلاد. هذا النوع من المعارك لا يعتمد على تقديم رؤية بديلة، بل على إنهاك صورة الخصم والتشكيك في شرعيته، بهدف إفراغ الساحة من أي منافس سياسي فعلي.
هذه الظاهرة ليست جديدة في علم السياسة. العديد من المفكرين الكبار مثل “جيوفاني سارتوري” و”بيير بورديو” أشاروا إلى هذه الظاهرة باعتبارها نوعًا من “العنف الرمزي”، حيث لا يتم القضاء على الخصم بالوسائل المادية، بل يتم تدميره رمزيًا، عن طريق تقويض رصيده الأخلاقي والتاريخي، حتى قبل أن يدخل المنافسة السياسية. إن ما يجري يتجاوز النقد السياسي إلى تشكيل للرأي العام عبر خطاب يُعيد إنتاج صورة مشوهة عن الحزب المستهدف، ويغذي الشعور الجمعي بعدم شرعيته السياسية.
الأكثر إثارة للدهشة في هذه الحملة هو أن جزءًا منها لا يُدار فقط من خارج الحزب، بل يمتد إلى داخله أيضًا. بعض الانتقادات تأتي من داخل الحزب ذاته، من أشخاص كانوا في يوم من الأيام جزءًا من صفوفه. هذه الظاهرة، التي يمكن تسميتها بـ”النقد الذاتي المستدرج”، ليست مجرد عملية تصحيحية، بل هي اختراق ناعم لبنية الحزب، تحولها إلى ذات تنقض نفسها بنفسها، وهو ما يشبه محاولات تفكيك الأحزاب من الداخل.
ماكس فيبر فرق بين “أخلاق الاقتناع” و”أخلاق المسؤولية”، موضحًا أن السياسي الحق لا يكتفي بالإيمان بمبادئه، بل يُحاسب على نتائج أفعاله. وبالتالي، فإن المساءلة السياسية للعدالة والتنمية يجب أن تكون جادة، تقوم على تقييم موضوعي لتجربته في تدبير الشأن العام، لا على اختزال هذه التجربة في فشل شامل.
الأخطر من ذلك هو أن هذه الحملة لا تقتصر على تقديم نقد بناء أو طرح بدائل، بل تُستغل كأداة لإعادة هندسة الخريطة السياسية عبر “الشيطنة الناعمة”. بدلاً من تقديم مشروع مجتمعي مقنع، يتم التركيز على إبراز فشل الآخر بهدف إيصال رسالة ضمنية: “نحن البديل لأننا لسنا هو”. هذه الاستراتيجية، كما أثبتت التجارب التاريخية في العديد من الديمقراطيات، غالبًا ما تُنتج أوهامًا انتخابية، تنكشف حقيقتها بمجرد وصول “البدائل” إلى السلطة.
الأكثر خطورة في هذا السياق هو استغلال وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، التي ينبغي أن تكون فضاءات للنقاش العمومي الرصين، لتتحول إلى أدوات للتعبئة النفسية السريعة. تُضخ الرسائل السياسية المشفرة، وتُعاد صياغة الصور والانطباعات، في حرب ناعمة، تعتمد على اللاوعي الجمعي. إنها حرب تُخاض ليس بالوسائل التقليدية، بل عبر استثمار التراكمات النفسية السلبية لدى المواطنين.
لا أحد في هذا السياق يقدس أي تجربة سياسية أو يُبرئها من الأخطاء، فكل فاعل سياسي يجب أن يخضع للمراجعة والمساءلة. لكن ما يجب التنبيه إليه هو أن تحويل السياسة إلى ساحة لتصفية الحسابات الشخصية أو مسرح لتوزيع النفوذ عبر تسفيه الخصوم، يضعف الثقة العامة في العمل السياسي، ويدفع المواطنين، المنهكين أصلًا، إلى مزيد من العزوف واللامبالاة.
الخطر الأعمق لا يكمن في فشل حزب ما، بل في نجاح عقلية الإقصاء، التي تسعى إلى بناء المشروعية عبر تدمير صورة الآخر. هذا يؤدي إلى نشوء سلطة هشة، بلا جذور، و يخلي الساحة السياسية من التنوع والمنافسة الشريفة. العواقب المترتبة على هذا هي فشل في الحكم، وغياب رؤية ديمقراطية ناضجة.
نخلص من هذا أنه من السهل خداع الناس لبعض الوقت، لكن من الصعب بناء مستقبل سياسي على الكذب والتشويه والتخويف. وحده المشروع الصادق، المعتمد على الإقناع والصدق، هو القادر على إعادة بناء الثقة في الفعل السياسي، باعتباره أفقًا وطنيًا جامعًا، لا مجرد سلعة انتخابية.