الصحافة _ كندا
يشكل الإطلاق الرسمي للمركب الصناعي لمحركات الطائرات التابع لمجموعة “سافران”، الذي ترأسه الملك محمد السادس اليوم بالنواصر، حدثًا اقتصاديًا فارقًا في مسار التحول الصناعي للمغرب. فالمشروع، الذي يُعد أحد أهم الاستثمارات الصناعية الأوروبية في القارة الإفريقية، يرسّخ موقع المملكة ضمن خريطة الاقتصاد الصناعي العالمي، ويترجم بوضوح الرؤية الملكية القائمة على تحويل المغرب من بلد استقبال استثمارات إلى فاعل صناعي ذي وزن تكنولوجي واستراتيجي.
من منظور الاقتصاد السياسي للتنمية، يُعد هذا المشروع تجسيدًا عمليًا لفلسفة الملك في بناء السيادة الصناعية. إذ يندرج ضمن مقاربة شمولية تهدف إلى تعزيز تموقع المغرب في الصناعات المتقدمة، من خلال تعميق الاندماج في سلاسل القيمة العالمية ورفع القدرات الوطنية في مجالات الابتكار والبحث التطبيقي والهندسة الصناعية. فصناعة محركات الطائرات، بما تحمله من تعقيد تكنولوجي، تمثل اليوم أحد مؤشرات القوة الصناعية للدول الصاعدة، ومجرد ولوج المغرب إلى هذا المجال يعني انتقالًا نوعيًا في بنيته الاقتصادية.
البيانات الرقمية التي قدّمها وزير الصناعة والتجارة رياض مزور تؤكد هذا التحول البنيوي. فخلال عقدين، انتقل رقم معاملات قطاع الطيران من أقل من مليار درهم سنة 2004 إلى أزيد من 26 مليار درهم سنة 2024، بفضل سياسات صناعية متراكمة ومؤسسات تكوين متخصصة ومناطق صناعية مهيكلة مثل “ميدبارك”. كما يضم القطاع اليوم أكثر من 150 فاعلاً دوليًا، ما يعكس قدرة المغرب على بناء منظومة صناعية متكاملة تستقطب الرأسمال الأجنبي في إطار من الاستقرار السياسي والوضوح التشريعي.
المركب الجديد، الذي سيُخصص لتصنيع واختبار وصيانة محركات الطائرات من طراز LEAP 1A، يُعد ثاني موقع إنتاج عالمي لهذه التكنولوجيا بعد فرنسا. استثمار تبلغ قيمته الإجمالية أكثر من 3.4 مليارات درهم، وسيوفر أكثر من 900 فرصة عمل عالية التأهيل بحلول عام 2030، بما يؤكد أن التحول الصناعي المغربي لم يعد قائماً على اليد العاملة منخفضة الكلفة، بل على الكفاءات التقنية ذات القيمة المضافة العالية.
التحليل الاقتصادي لهذا المشروع يبرز ثلاثة أبعاد جوهرية.
أولًا، البعد التكنولوجي، إذ يُعزز قدرة المغرب على نقل المعرفة الصناعية وبناء تراكم تكنولوجي وطني في مجال الطيران.
ثانيًا، البعد الجيو-اقتصادي، حيث يتحول المغرب إلى حلقة وصل استراتيجية بين أوروبا وإفريقيا في مجال الصناعات الجوية، بما يعزز دوره كمركز إقليمي للتصنيع والتجميع والتصدير.
ثالثًا، البعد الاجتماعي، من خلال إحداث فرص عمل نوعية للشباب المهندسين والتقنيين، وتوسيع قاعدة الطبقة المتوسطة الصناعية، وهي ركيزة رئيسية لأي نموذج تنموي مستدام.
كما أن هذا الاستثمار يعكس ثقة مجموعة “سافران”، أحد أكبر الفاعلين في صناعة الطيران العالمية، في بيئة الأعمال المغربية، التي تمتاز بالاستقرار الماكرو-اقتصادي، وتطور البنيات التحتية، والانفتاح المتدرج على الطاقات المتجددة والاقتصاد الأخضر، كما تبرهن عليه الاتفاقية الثانية الموقعة لتزويد مواقع “سافران” بالطاقة النظيفة.
من زاوية الاقتصاد السياسي للعلاقات الدولية، يحمل هذا المشروع بعدًا دبلوماسيًا واضحًا. فاختيار شركة فرنسية بهذا الحجم توسيع نشاطها بالمغرب في هذا التوقيت يعكس تحولًا في منطق الشراكة بين الرباط وباريس نحو علاقة قائمة على التكافؤ الصناعي وليس التبعية الإنتاجية. وهو ما يعزز استقلالية القرار الاقتصادي المغربي ويؤكد نجاح الدبلوماسية الملكية في جعل التعاون الاقتصادي امتدادًا للسيادة الوطنية.
في المحصلة، لا يتعلق الأمر باستثمار صناعي معزول، بل بمرحلة متقدمة من هندسة السيادة الاقتصادية المغربية التي وضع الملك محمد السادس أسسها منذ عقدين، من خلال التنويع الإنتاجي والتموقع في القطاعات التكنولوجية المعقدة.
إن المشروع الجديد بمحركات الطائرات ليس مجرد توسع في قاعدة التصنيع، بل بداية جيل صناعي مغربي جديد قائم على الكفاءة والابتكار والقدرة على المنافسة داخل سلاسل القيمة العالمية.
المغرب اليوم لا يشارك فقط في صناعة الطائرات، بل يشارك في صناعة المستقبل.