الصحافة _ كندا
يمثل التوقيع على اتفاقية الشراكة بين المديرية العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني من جهة، والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها من جهة أخرى، منعطفًا مؤسساتيًا نوعيًا في مسار الدولة المغربية نحو إرساء مقاربة شمولية ومندمجة لمكافحة الفساد، تتجاوز حدود التعاون التقني إلى بناء ما يمكن تسميته بـ”الأمن المؤسساتي للنزاهة”.
الاتفاقية التي وقعها عبد اللطيف حموشي ومحمد بنعليلو، تشكل في جوهرها ترجمة لإرادة سياسية عليا تروم تحصين الجبهة الداخلية للدولة من مخاطر الفساد، ليس باعتباره مجرد انحراف سلوكي أو مالي، بل كمهدد لبنية الدولة ومصداقية المؤسسات. هذا ما عبّر عنه بوضوح البيان المشترك للطرفين حين أشار إلى أن الاتفاقية “إعلان صريح لإرادة الدولة في تحصين جبهتها الداخلية ضد مخاطر الفساد، عبر إرساء إطار مستدام للتنسيق والتكامل بين جهاز أمني سيادي وهيئة دستورية مستقلة”.
ويُمكن قراءة هذه الخطوة في ضوء تحوّل بنيوي في فلسفة تدبير الدولة للفساد. فبعد أن ظلت المقاربة لعقود رهينة التدخلات الظرفية والإجراءات الزجرية المحدودة، ننتقل اليوم إلى إدماج البعد الأمني والاستخباراتي في المنظومة الوقائية، وهو ما يعكس إدراكًا عميقًا بأن الفساد ليس مجرد مخالفة مالية، بل منظومة مصالح موازية تهدد الاقتصاد والسيادة والعدالة الاجتماعية.
ويرى محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، أن هذا التوجه يمثل تطورًا نوعيًا يستوجب مواكبته بإجراءات عملية أكثر جرأة، وعلى رأسها تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة عبر إحالة التقارير الرسمية والرقابية المتعلقة بالفساد والإثراء غير المشروع على القضاء، بما يعزز ثقة المواطنين في جدية الدولة في مواجهة الفساد البنيوي. فالمعركة ضد الفساد، كما يؤكد الغلوسي، تحتاج إلى إرادة سياسية واضحة وإلى مؤسسات تتقاطع أدوارها لا تتنازعها.
في هذا السياق، يبدو أن الاتفاقية تؤسس لـ نموذج جديد للتنسيق الأفقي بين مؤسسات الدولة، حيث تتكامل الأدوار بين جهاز أمني يملك أدوات الرصد والتحري، وهيئة دستورية تتوفر على شرعية قانونية لمتابعة القضايا وإحالتها على السلطات القضائية المختصة. هذا التكامل قد يشكل، في حال تفعيله، نواة لتدبير استراتيجي للوقاية والزجر في آن واحد، بما يجعل مكافحة الفساد جزءًا من سياسة الدولة الأمنية والتنموية.
إن هذه المبادرة، رغم رمزيتها، تفتح الباب أمام إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع في ميدان الشفافية والحكامة، وتعيد التأكيد على أن الإصلاح المؤسساتي لا يتحقق إلا حين تلتقي النزاهة بالأمن، وتتحول مكافحة الفساد من شعار إلى سياسة عمومية ذات بعد استراتيجي وأمني.
ويظل التحدي الأكبر اليوم هو الانتقال من النص إلى الفعل، ومن النية إلى الإنجاز، في معركة عنوانها الثقة… وهدفها بناء دولة قوية بمؤسساتها، منيعة بنزاهتها.