الصحافة _ كندا
مرة أخرى، يُصر وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، محمد سعد برادة، على القفز فوق الأسباب الحقيقية لأزمة المدرسة العمومية، مفضّلًا أسلوب التعميم والتبسيط المُخل في تفسير ظواهر اجتماعية معقدة، كظاهرة شغب الملاعب أو الانقطاع المبكر عن الدراسة. ففي آخر جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس النواب، لم يتردد الوزير في الربط المباشر بين خروج 160 ألف تلميذ سنويًا من سلك الإعدادي، وما وصفه بانتشار العنف في محيط الملاعب، متحدثًا بعبارات صادمة عن “أطفال لا يقرؤون ولا يفهمون”، منتقدًا ما سماه استفحال ظواهر الانحراف بين صفوف هذه الفئة، دون أن يقدم ملامح واضحة لأي مقاربة وقائية أو تربوية حقيقية.
التصريح الذي بدا للبعض “جريئا” من حيث كشفه لرقم مفزع، بدا للآخرين مقلقًا في صيغته ومضمونه، خاصة حين يصدر عن مسؤول سياسي يفترض أن يكون في مقدمة من يسائل السياسات العمومية لا من يبرر إخفاقاتها. فبدل أن يفتح النقاش حول جذور هذا النزيف الذي يفرّغ المدرسة المغربية من وظيفتها الأساسية، اختار الوزير تحويل تلاميذ محرومين من حقهم في التعليم إلى مُتهمين مفترضين، وإلى شماعة لتعليق الفشل المجتمعي في ضبط محيط الملاعب، علما أن ظاهرة الشغب نفسها تطال أيضا أشخاصا راشدين، ومن مختلف الفئات العمرية والمهنية.
مصادر تربوية من قطاع التعليم، وصفت هذا الربط بـ”غير المسؤول”، وقالت إن التصريحات لا تعكس فقط محدودية في التشخيص، بل أيضًا استمرارا لنفس النهج الذي يعتبر التلميذ ضحية وسيلةً للتبرير بدل أن يكون في قلب مشروع تربوي إنقاذي شامل. فالمشكل، وفق تعبير “محمد عبو السرغيني” الخبير في علم الاجتماع التربوي، لا يكمن فقط في عدد المنقطعين، بل في النظام الذي يُنتج هذا الرقم دون محاسبة، ودون مقاربة تراعي السياق الاجتماعي والمجالي لكل تلميذ.
وأضاف المتحدث ذاته “أن تحميل هؤلاء الأطفال مسؤولية فشل المدرسة في الاحتفاظ بهم “أشبه بمن يعاتب المريض على مغادرة المستشفى لأنه لم يُشفَ”.
تقديرات غير رسمية تتحدث عن أن حوالي مليون ونصف تلميذ غادروا مقاعد الدراسة خلال السنوات العشر الماضية دون شهادة أو تكوين، وهو ما يعني جيلًا بأكمله خارج المدرسة وسوق الشغل، ومهدد بالهشاشة والانحراف. ومن بين الأسباب الرئيسة، حسب تقارير صادرة عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين، نجد ضعف البنيات التحتية، غياب الجاذبية البيداغوجية، الخصاص المهول في التأطير، وانعدام العدالة المجالية بين الحواضر والمناطق القروية والضواحي.
وبرغم إقرار الوزير “القادم من قطاع الحلويات” بأن الاكتظاظ تم التخفيف منه في سلك التعليم الابتدائي، إلا أن المعطيات الرسمية تشير إلى أن هذا المشكل لا يزال قائمًا في الإعدادي والثانوي، حيث تبلغ نسبته 12 بالمئة، وتتجاوز هذا المعدل في مؤسسات حضرية كبرى مثل مقاطعة بن مكادة في طنجة أو جماعة النواصر قرب الدار البيضاء. ويظهر أن الخلل لا يرتبط فقط بالتوسع العمراني، كما يحاول الوزير تبسيطه، بل بعجز المنظومة عن استباق التغيرات السكانية، واستمرارها في التفاعل مع الأزمة بدل التخطيط لها.
في السياق ذاته، تساءلت المصادر بجدية حول أهلية الوزير الحالي، خاصة وأن مساره المهني لا يرتبط لا من قريب ولا من بعيد بقطاع التربية والتعليم، بل انطلق من إدارة شركات متخصصة في الصناعات الغذائية والحلويات، وهو ما يعزز، بحسبها، “فكرة أن التعيينات في مناصب استراتيجية تُمنح بناءً على الولاء أو التجربة في التدبير، لا بناء على المعرفة التربوية أو الدراية بتعقيدات النظام التعليمي”.
ارتباطا بذلك، استغربت المصادر ذاتها كيف ان الوزير نفسه سبق أن مجّد في تصريحات إعلامية سابقة “مدارس الريادة” واعتبرها نموذجًا يُضرب به المثل وتسعى دول كبرى إلى استلهامه، دون أن يسمي هذه الدول أو يقدم معايير واضحة لهذا التقييم المتفائل، الذي لا يجد أي انعكاس له في الواقع ولا في تصنيفات جودة التعليم. فحسب مؤشر “بيزا” التابع لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، يحل المغرب في مراتب متأخرة جدًا في اختبارات القراءة والرياضيات والعلوم، وهي نفس الخلاصات التي أكدتها دراسة صادرة سنة 2023 عن البنك الدولي، مشيرة إلى أن تلميذا مغربيا يبلغ من العمر 10 سنوات لا يستطيع غالبا قراءة نص وفهم معناه، في ما يسمى بـ”فقر التعلم”.
أما المشروع الذي يسوقه الوزير باعتباره حلا سحريًا للأقسام المشتركة، أي المدارس الجماعاتية، فلا يزال بعيدًا عن التعميم، إذ تفيد بيانات ميدانية أن العشرات من الجماعات القروية لا تتوفر على أي مدرسة جماعاتية، وأن غالبيتها تعمل وفق نماذج تجريبية أو مؤقتة، تفتقر لمرافق الإيواء والتغذية والنقل.
وتخلص بعض الأصوات الناقدة إلى أن خطاب الوزير يفتقر إلى الحد الأدنى من الرؤية الاستراتيجية، ويفضل الانخراط في لعبة الأرقام والوعود والربط بين قضايا لا رابط بينها، عوضَ أن يضع خطة حقيقية لاستعادة ثقة الأسر في المدرسة العمومية. ففي النهاية، المدرسة ليست فقط مكانًا لتلقين الدروس، بل فضاء لصناعة المستقبل، وإذا لم يكن هذا المستقبل مضمونًا لتلميذ اليوم، فمن المسؤول.