الموهبة بين القيد والحرية: من يحق له أن يكون فناناً في عالم الأحكام الجاهزة؟

31 مارس 2025
الموهبة بين القيد والحرية: من يحق له أن يكون فناناً في عالم الأحكام الجاهزة؟

الصحافة _ بقلم: فيصل مرجاني

إنّ اختزال الإنسان في مساره الأكاديمي أو خلفيته الاجتماعية هو إمعان في نفي فردانيته ومحو استقلاليته بوصفه كائناً يمتلك إرادة حرة وقدرة على تجاوز المحددات التي يُراد لها أن تكون قدره المحتوم. إنّ ما يحدد المسار المهني للفرد ليس شهادة يحملها ولا بيئة نشأ فيها، بل قناعته الداخلية واختياراته المبنية على إدراك ذاتي لما يريد أن يكون عليه. ومع ذلك، لا يزال العقل الجماعي في بعض المجتمعات مسكوناً بهاجس الهيمنة على مسارات الأفراد، متوهماً امتلاك الحق في مصادرة خياراتهم أو إخضاعها لمعايير تعسفية لا تستند إلى منطق سوى منطق الوصاية.

لقد أصبحت بعض المهن، وعلى رأسها الفنون، هدفاً دائماً لحملات التشكيك والانتقاص، وكأنّ الانخراط فيها هو خروج عن الأعراف أو انحراف عن المسار “الطبيعي” الذي يُفترض أن يلتزم به من نشأ في بيئة معينة أو درس في مؤسسة محددة. إنّ محاكمة شخص قرر أن يكون فناناً بحجة أنه درس في مدرسة ذات رمزية سياسية أو اجتماعية هو في جوهره تعبير عن فشل ذريع في استيعاب مفهوم الحرية الشخصية، ومحاولة ساذجة لإعادة إنتاج التصنيفات الطبقية التي تجعل من بعض الاختيارات امتيازاً حصرياً لفئة دون أخرى. ليست الموهبة موروثاً طبقياً، ولا يمكن حصر الإبداع في حدود مصطنعة يحددها انتماء الفرد لبيئة دون أخرى.

لقد تجلى هذا المنطق الوصائي مؤخراً في موجة الانتقادات التي طالت الممثلة يسرى بوحموش، لمجرد أنها اختارت دخول عالم التمثيل رغم أنها كانت طالبة في المدرسة المولوية، وكأنّ انتماءها لهذه المؤسسة التعليمية يجعل من خياراتها المهنية ملكاً للآخرين، أو يفرض عليها أن تسلك طريقاً محدداً سلفاً. هذه الهجمة تكشف عن عقلية متكلسة لا ترى في التعليم أداة للتحرر وبناء شخصية مستقلة، بل تعتبره قيداً إضافياً يحدد للفرد ما يحق له فعله وما لا يحق له.

الشيء ذاته ينطبق على المصور كريم رمزي، صديق الملك محمد السادس ورفيق دراسته، الذي اختار التصوير الفوتوغرافي كمسار مهني، دون أن يخضع لمنطق التوقعات النمطية التي ترى أن كل من درس في بيئة معينة يجب أن يسير في اتجاه محدد. إنّ خيار رمزي، كما هو الحال مع بوحموش، يذكّرنا بأنّ الحرية الفردية لا تقبل المساومة، وأنّ الإبداع لا يخضع لأي تصنيف اجتماعي أو سياسي.

لكن الهجوم على الاختيارات الحرة لا يقتصر على المجال الفني المعاصر فحسب، بل يمتد ليشمل الفنون الشعبية التي تعتبر جزءاً أصيلاً من الهوية الثقافية. لقد كانت “الشيخة” عبر التاريخ المغربي نموذجاً حياً للفنانة التي تواجه الإقصاء والازدراء، ليس بسبب فنها في حد ذاته، بل لأن المجتمع لم يستطع تقبل فكرة أن امرأة تختار التعبير الفني بحرية. لقد تعرضت الشيخة لحملات من السب والشتم، ليس فقط من قبل العامة، بل حتى من بعض رجال الدين والسياسة الذين لم يجدوا في الإبداع الشعبي سوى مبرر لإطلاق خطابهم القائم على الوصاية الأخلاقية الفارغة.

إنّ هذه الهجمات لا تعكس سوى أزمة فكرية عميقة، حيث لا يزال البعض غير قادر على التمييز بين الموقف الشخصي من الفن وبين الحق الموضوعي للآخرين في ممارسته. هذا ما تجلى أيضاً في الحملة الشرسة التي تعرضت لها الفنانة لطيفة أحرار بعد تعيينها في وكالة التعليم العالي، حيث انطلق البعض، باسم “القيم” المزعومة، إلى التشكيك في أهليتها لهذا المنصب، وكأنّ الفنان محكوم عليه بالبقاء في الهامش، محروم من أي دور رسمي أو ثقافي داخل مؤسسات الدولة.

إنّ المجتمعات التي لا تعترف بقيمة الفن هي مجتمعات تعاني من خواء ثقافي عميق، لأنّ الإبداع ليس ترفاً فكرياً، بل هو أحد أعمدة الوعي الإنساني وأدوات مقاومة الجمود الذهني. الفنان ليس مجرد كائن مسلٍّ، بل هو حامل لرسالة، وصانع للمعنى، وكاشف لأعطاب المجتمع. ولذلك، فإنّ كل محاولات إقصائه أو تقزيمه ليست سوى تجليات لخوف دفين من الوعي الذي يحمله. إنّ من يهاجم الفنان ليس لديه بالضرورة موقف من الفن ذاته، بل يخشى الحرية التي يجسدها هذا الفن.

إنّ الضيق بالأفراد الذين يختارون مسارات غير تقليدية يعكس عجزاً عن التكيف مع فكرة أن الإنسان ليس مشروعاً جماعياً، بل هو كيان مستقل له الحق في أن يكون ما يريد، لا ما يُراد له أن يكون. ليست ثمة قاعدة كونية تفرض على من درس في مدرسة نخبوية أن يصبح سياسياً أو رجل أعمال، كما لا يوجد منطق يسمح بحرمان شخص من اختيار طريقه فقط لأنّ المجتمع لم يعتد رؤية أبناء هذه الفئة في ذلك المجال. هذه الرغبة في الهيمنة على اختيارات الآخرين تكشف عن عقلية استبدادية حتى في أبسط تفاصيلها، إذ لا تقبل بأن يكون الإنسان مالكاً لذاته، بل تريد أن تبقيه خاضعاً لنظرة الآخر وأحكامه المسبقة.

إنّ كل موقف يستهين بالفن أو ينتقص من قيمة المبدعين هو في جوهره موقف يعبر عن رفض للحياة بأبعادها الواسعة، وتضييق متعمد لمساحات الجمال والحرية التي يحتاجها الإنسان ليكون كائناً مكتمل الإنسانية. الذين يرون في الفن عاراً، وفي الفنانين كائنات هامشية، هم أنفسهم الذين لا يستطيعون تخيل مجتمع قادر على إنتاج فكر نقدي أو رؤية جمالية تتجاوز السطحية التي يريدون تكريسها. ولذلك، فإنّ معركة الدفاع عن الحق في الإبداع ليست معركة فنية فقط، بل هي معركة فكرية وسياسية بامتياز، لأنها تتعلق بالمبدأ الجوهري الذي يُبنى عليه أي مجتمع حي: الحق في الاختلاف، والحق في أن يكون الإنسان ما يشاء، لا ما يريده له الآخرون.

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص المحتوى والإعلانات، وذلك لتوفير ميزات الشبكات الاجتماعية وتحليل الزيارات الواردة إلينا. إضافةً إلى ذلك، فنحن نشارك المعلومات حول استخدامك لموقعنا مع شركائنا من الشبكات الاجتماعية وشركاء الإعلانات وتحليل البيانات الذين يمكنهم إضافة هذه المعلومات إلى معلومات أخرى تقدمها لهم أو معلومات أخرى يحصلون عليها من استخدامك لخدماتهم.

اطّلع على التفاصيل اقرأ أكثر

موافق