الصحافة _ كندا
تدشين جلالة الملك محمد السادس للمشاريع البحرية الكبرى في الدار البيضاء ليس حدثا عاديا في سجل المنجزات الوطنية، بل هو حلقة جديدة في مسلسل استراتيجي ممتد منذ عقدين من الزمن، يقوم على إعادة رسم خريطة المغرب الاقتصادية والبحرية، وتعزيز مكانته كقوة صاعدة على ضفاف الأطلسي والمتوسط.
إن استثمار ما يفوق 5 مليارات درهم في تهيئة ميناء الصيد، وبناء ورش جديد لإصلاح السفن، وتطوير محطة خاصة بالرحلات البحرية، وتشييد مجمع إداري يضم مختلف المتدخلين، يكشف عن وضوح الرؤية الملكية التي تدرك أن السيادة البحرية ليست مجرد خيار اقتصادي، بل رافعة جيوستراتيجية تضمن للمغرب موقعا محوريا في خريطة المبادلات الدولية.
فميناء الصيد الجديد، بكلفة 1,2 مليار درهم، لا يمثل فقط دعما مباشرا لظروف عيش الصيادين وتنظيم قطاع الصيد التقليدي، بل هو أيضا استثمار في العدالة المجالية والاجتماعية، عبر تحسين ظروف تسويق وتثمين المنتوجات البحرية، وإدماج آلاف الأسر في الدورة الاقتصادية الرسمية. وهذا يعكس البعد الاجتماعي العميق في اختيارات جلالة الملك، حيث تترابط التنمية الاقتصادية مع صيانة الكرامة الإنسانية.
أما ورش إصلاح السفن، الذي كلف 2,5 مليار درهم، فهو مشروع سيادي بكل المقاييس، لأنه يحرر المغرب من التبعية لمراكز إصلاح السفن المجاورة، ويحول الدار البيضاء إلى قطب صناعي بحري قادر على استقطاب جزء من الطلب الدولي. هنا تبرز عبقرية الرؤية الملكية: تحويل نقط ضعف مرتبطة بالتبعية الملاحية إلى نقط قوة تعزز التموقع الاستراتيجي للمغرب في سلاسل القيمة البحرية العالمية.
كما أن محطة الرحلات البحرية الجديدة (720 مليون درهم) لا تختصر في بعدها السياحي فحسب، بل تجسد رهاناً على جعل الدار البيضاء وجهة عالمية لسياحة الأعمال والرحلات البحرية، بما يوازي طموح المملكة في الارتقاء بمكانتها ضمن المراكز المالية والتجارية الإقليمية. هي بنية تحتية ذات أثر اقتصادي مباشر، لكنها في العمق أداة لبناء صورة المغرب كوجهة حديثة، منفتحة، وذات جاذبية استثنائية.
أما المجمع الإداري الجديد (500 مليون درهم)، الذي يجمع مختلف المتدخلين في الميناء، فهو خطوة تعكس وعي المؤسسة الملكية بأهمية الحكامة والنجاعة في إدارة المرافق العمومية. تجميع السلط الإدارية والجمركية والمينائية في فضاء واحد يقطع مع التشتت والبيروقراطية، ويفتح الباب أمام نموذج حديث للتدبير المينائي قائم على الكفاءة والشفافية.
لا يمكن قراءة هذه المشاريع الكبرى في معزل عن الرؤية الشمولية التي يقودها جلالة الملك منذ إطلاق مشروع ميناء طنجة-المتوسط، وما تلاه من مخطط وطني للموانئ. فالمغرب اليوم لم يعد مجرد بلد يطل على البحر، بل أصبح دولة بحرية بامتياز، تستثمر في بنيات تحتية عصرية وتستوعب التحولات الجيوسياسية التي تجعل من الواجهة الأطلسية فضاء استراتيجياً للتنافس الدولي.
إن ما يحدث في الدار البيضاء اليوم هو تعبير عن “تمغربيت” في أبهى صورها: وطن يؤمن بقدراته، ملك يقود برؤية استباقية، ومشاريع تحمل روح التنمية المندمجة التي تزاوج بين الاقتصاد والاجتماع، بين المحلي والعالمي. هذه هي المدرسة الملكية في التنمية، مدرسة تراهن على المستقبل من خلال الاستثمار في البنيات الأساسية التي تعطي للمغرب قوة الحضور وعمق التأثير.
إن الرهان المطروح اليوم على الجامعة والمجتمع المدني والنخب الاقتصادية هو استيعاب هذه الرؤية الملكية وتملكها، عبر تحويل هذه المشاريع إلى فرص للتكوين، للبحث، وللإبداع الصناعي. فالتحدي لم يعد في بناء الأرصفة والأحواض، بل في مراكمة الكفاءات الوطنية التي تجعل المغرب قادراً على المنافسة والابتكار في مجال الصناعات البحرية والخدمات المينائية.
بهذا المعنى، فإن تدشين جلالة الملك لمشاريع الميناء بالدار البيضاء ليس فقط حدثاً عمرانياً أو اقتصادياً، بل هو إعلان عن دخول المغرب مرحلة جديدة في تاريخه التنموي، حيث البحر لم يعد مجرد فضاء جغرافي، بل تحول إلى مجال سيادي واستراتيجي يحدد مكانة المغرب في النظام الدولي.