الصحافة _ كندا
المجلس الوزاري الذي ترأسه الملك محمد السادس، نصره الله، يوم الأحد 19 أكتوبر 2025 بالقصر الملكي بالرباط، شكّل محطة حاسمة في مسار الدولة المغربية، إذ بدا كجلسة لإعادة ضبط بوصلة الدولة نحو مرحلة جديدة، أكثر جرأة ووضوحاً في الإصلاح، وأقرب إلى المواطن في رؤيتها ومضمونها.
البلاغ الصادر عن الديوان الملكي عبّر عن إرادة ملكية واضحة في قيادة تحول شامل يجمع بين العدالة الاجتماعية، والتوازن الاقتصادي، وحكامة المؤسسات.
منذ بداية الاجتماع، كان واضحاً أن جلالة الملك يُشرف بشكل مباشر على صياغة جيل جديد من السياسات العمومية، يقوم على ما سماه في خطاباته الأخيرة بـ“المغرب الصاعد”، أي مغرب الكفاءة والعدالة والتنمية المندمجة.
العرض الذي قدمته وزيرة الاقتصاد والمالية نادية فتاح أمام الملك، ترجم هذه الرؤية إلى أرقام وبرامج دقيقة، ركزت على أربع أولويات كبرى، في مقدمتها تعزيز الاستثمار في الإنسان المغربي عبر دعم الصحة والتعليم، وتخصيص غلاف مالي ضخم قدره 140 مليار درهم لهذين القطاعين الحيويين، مع إحداث أكثر من 27 ألف منصب مالي جديد.
هذا الرقم وحده يكشف حجم الرهان الملكي على إصلاح المرافق الاجتماعية من الداخل، بالأرقام والمشاريع والموارد البشرية.
الملك محمد السادس وجّه الحكومة إلى توطيد النمو الاقتصادي الوطني، عبر دعم المقاولات الصغيرة والمتوسطة، وتفعيل ميثاق الاستثمار، وتطوير مشاريع الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر.
إنه تصور اقتصادي متكامل، يجعل من النمو والعدالة وجهين لعملة واحدة.
على المستوى السياسي، حملت المصادقة على مشروعي القانونين التنظيميين المتعلقين بمجلس النواب والأحزاب السياسية رسالة قوية حول إرادة تخليق الحياة العامة وإعادة الثقة للمغاربة في مؤسساتهم.
القانون الجديد يمنع من الترشح كل من صدرت في حقه أحكام تمس بالأهلية الانتخابية، ويشدد العقوبات ضد من يعبث بنزاهة الانتخابات، في حين تمت مكافأة الشباب والنساء بتحفيزات مالية تصل إلى تغطية 75% من مصاريف الحملات الانتخابية للشباب دون 35 سنة، مع تخصيص الدوائر الجهوية للنساء، ما يؤسس فعلياً لبرلمان مغربي جديد أكثر تمثيلية وعدالة.
الملك، بهذه الإصلاحات، لا يغيّر القوانين فقط، بل يؤسس لعقد سياسي جديد يعيد الثقة للمغاربة في العمل الحزبي والمؤسساتي.
فبعد احتجاجات “جيل زيد” وموجة الغضب الشعبي من الممارسات السياسية البالية، جاء الرد الملكي هادئاً وحكيماً: إصلاح من الداخل بالتجديد لا بالقطيعة.
وفي الجانب الدستوري، أقر المجلس الوزاري مشروع قانون يتعلق بالدفع بعدم دستورية القوانين، وآخر بتعديل القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية، ما يعكس إرادة جلالة الملك في تحصين دولة القانون من الداخل.
هذه الخطوة تمكّن المواطن من الاعتراض على أي قانون يمس بحرياته الدستورية، وتمنح المحكمة الدستورية آليات رقابية أكثر فعالية، بما يرسخ مبدأ أن لا سلطة فوق الدستور.
وفي الجانب الأمني والعسكري، صادق الملك على مرسوم خاص بالنظام الأساسي لموظفي المديرية العامة لأمن نظم المعلومات التابعة لإدارة الدفاع الوطني.
هذا القرار يأتي في وقت يشهد فيه العالم تصاعداً في الحروب الرقمية والهجمات السيبرانية، ما يجعل المغرب في حاجة إلى أطر تكنولوجية عالية الكفاءة.
المرسوم الجديد يمنح هذه الفئة تعويضات تحفيزية خاصة ويضمن مرونة في التوظيف، في إشارة إلى أن الدولة تتجه إلى تأمين سيادتها الرقمية بنفس الجدية التي تؤمن بها حدودها الترابية.
وفي السياق نفسه، تمت المصادقة على تعديل المرسوم الخاص بالمدرسة الملكية لمصلحة الصحة العسكرية، بإحداث “مجلس البحث العلمي”، في خطوة تهدف إلى دمج البحث العلمي العسكري ضمن منظومة التطوير الصحي الوطني، بما يعزز التكامل بين الأمن الوطني والأمن الصحي.
المجلس الوزاري جسّد أيضاً انفتاح المغرب على العالم، عبر المصادقة على 14 اتفاقية دولية في مجالات القضاء والدفاع والضرائب والضمان الاجتماعي.
بهذه الخطوة، يواصل الملك تثبيت موقع المغرب كفاعل إقليمي مؤثر، وقوة اقتراحية في القارة الإفريقية والعالم العربي، ومركز ثقة دولي يحتضن منظمات قارية كبرى.
يتضح من مجمل قرارات المجلس أن الملك محمد السادس قد انتقل من مرحلة إطلاق الأوراش إلى مرحلة ترسيخ المنجزات وتحصينها بالقانون.
فالمغرب الذي أراده جلالته هو مغرب المؤسسات القوية والإنسان المُمكَّن، مغرب الكرامة والإنصاف، مغرب المستقبل.
لقد أصبح واضحًا أن الملكية المغربية لم تعد تكتفي بتوجيه الحكومات، بل تضع بنفسها الإطار الإستراتيجي العام للدولة، من خلال مجالس وزارية تحوّل الرؤية الملكية إلى واقع تنفيذي.
إنها قيادة هادئة بإصلاح عميق، تُبنى على الاستمرارية والوضوح، لا على الشعارات والارتجال.
بهذا المجلس، يؤكد الملك محمد السادس أن المغرب يدخل مرحلة جديدة تُقاس فيها التنمية بكرامة المواطن قبل الأرقام، وأن الدولة ماضية بثقة نحو المستقبل، تحت قيادة تؤمن أن الإصلاح الحقيقي هو الذي يبدأ من الإنسان وينتهي بخدمته.